للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَاّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: ١٣٠]؛ أي: أذلها بالجهل والإعراض عن النظر، فإنه لا شك أن كل فرقة منهم راغبون عن ملة إبراهيم، فيكونون سفهاء، فكأنه قال: هؤلاء الراغبون عن ملة إبراهيم قالوا عند إيجاب التوجه إلى الكعبة: ({مَا وَلَاّهُمْ})؛ أي: ما حولهم وصرفهم ({عَن قِبْلَتِهِمُ الَتِي كَانُوا عَلَيْهَا})؛ أي: التي كانوا على التوجه إليها، وهي بيت المقدس، وكلمة (ما) في {مَا وَلَاّهُمْ} : استفهامية مرفوعة المحل على الابتداء، و {وَلَاّهُمْ} : خبره، والجملة في موضع النصب بالقول، يقال: تولى عن ذلك؛ أي: انصرف، وولاه غيره؛ أي: صرفه، والقِبْلة: فعلة، وقد اشتهر أن الفِعلة: للمرة، والفَعلة: للحال؛ كالجِلسة والقَعدة، نقله في عرف الشرع إلى الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وسميت قِبْلة؛ لأنَّ المصلي يقابلها وهي تقابله؛ فافهم.

وإنما قال اليهود ذلك؛ بناءً على أنَّهم لا يرون نسخ الشرائع والأحكام، لما زعموا أن نسخها بمعنى البداء، والرجوع عنها بداء، وذلك محال في حق الله تعالى؛ لعلمه بعواقب الأمور، والبداء والرجوع في الشاهد مبني على الجهل بالعواقب؛ كمن بنى بناء، ثم نقضه بما يبدوويظهر له أنه مخطئ وغالط في الفَرض الذي بنى بناءه عليه، واليهود إنَّما قالوا ذلك -وذهبوا إلى امتناع أن ينسخ الله حكمًا مما شرعه أولًا-؛ لجهلهم بتفسير النسخ وحده، ولو عرفوه؛ لما نفوه، فإن النسخ عبارة عن انتهاء الحكم إلى وقت معين؛ لانتهاء المصلحة التي شرع الحكم لها، وبيان حكم جديد لمصلحة أخرى في وقت آخر مع بقاء الحكم الأول مشروعًا، ومصلحة وقت كونه مشروعًا وليس فيه ما فهمته اليهود، وأمَّا المشركون والمنافقون؛ فإنما قالوا ذلك من حيث إنهم أعداء الدين، والأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالًا؛ لم يتركوا مقالًا، فمنهم من يقول: ما بالهم كانوا على قبلة، ثم تركوها مع أن الجهات لمَّا كانت متساوية في جميع الصفات؛ كان تحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى مجرد عبث، فلا يكون ذلك من فعل الحكيم؟ وقال المنافقون: اشتاق الرجل إلى بلد أبيه ومولده؛ فلذلك توجه إليه، وقال آخرون: تحير في دينه؛ حيث لم يثبت على دين، وقال ابن عباس: لمَّا حولت القبلة؛ جاءت جماعة من اليهود، وقالوا: يا محمد؛ ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها؟ فكن على بيت المقدس؛ نتبعك ونصدقك، وأرادوا بذلك فتنة النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فسماهم الله تعالى: سفهاء؛ لأنَّهم كانوا نوافل إبراهيم والكعبة بناؤه، وقبلة إسماعيل، ومع ذلك رغبوا عنها قبل، كان موسى عليه السَّلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، فهي قبلة الأنبياء كلهم عليهم السلام.

({قُل لِّلَّهِ المَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ})؛ يعني: أن الأمكنة كلها والنواحي بأسرها لله تعالى ملكًا وتصريفًا، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة حتى يمتنع إقامة غيره مقامه، وشيء من الجهات إنَّما يصير قبلة لمجرد أن الله تعالى أمر بالتوجه إليه، فله أن يأمر كل وقت بالتوجه إلى جهة من تلك الجهات على حسب الألوهية ونفوذ قدرته ومشيئته {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: ٢٣]، ولعل الوجه في التعبير عن جميع النواحي والأطراف بالمشرق والمغرب أن الشمس بحسب اختلاف حركاتها، وتبدل مطالعها ومغاربها متناولة لأكثر النواحي والجهات، فأقيم الأكثر مقام الكل، كذا قيل، فاتبع اليهود هوى أنفسهم، واستقبلوا المغرب، واتخذوها قبلة، وزعموا أن موسى عليه السَّلام كان في المغرب حينما أكرمه الله تعالى بوحيه وكلامه، كما قال تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأَمْرَ} [القصص: ٤٤]، واتبع النصارى هوى أنفسهم أيضًا، واستقبلوا المشرق، واتخذوا جهته قبلة، وزعموا أن مريم حين خرجت من بلدها؛ مالت إلى الشرق، كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: ١٦]، والمؤمنون استقبلوا الكعبة؛ طاعة لله تعالى وامتثالًا لأمره، لا ترجيحًا لبعض الجهات المتساوية على بعض بمجرد رأيهم واجتهادهم مع أنها قبلة خليل الله تعالى ورسوله، ومولد حبيبه عليه السَّلام.

({يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}) [البقرة: ١٤٢] : وهو توجه العباد إلى الجهة التي أمر الله بالتوجه إليها، ووجه استقامته كونه مشتملًا على الحكمة والمصلحة موافقًا لما هداهم الله إليه بأن أمرهم بذلك، وأوجبه عليهم؛ فافهم.

(فصلى)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة العصر؛ لقول البراء بن عازب في باب (الصلاة من الإيمان) : (وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر...)؛ الحديث، وصلى (مع النبيِّ) الأعظم) (صلَّى الله عليه وسلَّم رجل) اسمه عباد بن نَهِيك -بفتح النون، وكسر الهاء- قاله أبو عمرو، أو عباد بن بشر بن قيظي، قاله ابن بشكوال، وفي رواية باب (الصلاة من الإيمان) : (وصلى معه قوم) (ثم خرج) أي: الرجل (بعدما صلى) وكلمة (ما) إما مصدرية أو موصولة؛ أي: بعد صلاته أو بعد الذي صلى؛ أي: انصرف من صلاته، واستقبال القبلة، وفي رواية المستملي والحمُّوي: (فصلى مع النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم رجال)؛ بالجمع.

قال الكرماني: (فصلى) : هذه الرواية يرجع الضمير في قوله: (ثم خرج) إلى ما دل عليه (رجال)، وهو مفرد، أو معناه: ثم خرج خارج.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (بل معناه على هذه الرواية: ثم خرج خارج منهم، فيكون الفاعل محذوفًا) انتهى.

(فمر) أي: ذلك الرجل في طريقه (على قوم من الأنصار) : من بني حارثة، وهم أهل مسجد يعرف الآن بمسجد القبلتين (في صلاة العصر) وكأنه عليه السَّلام صلى العصر في أول وقتها، وهؤلاء القوم صلوا العصر في آخر وقتها المستحب، فلا منافاة؛ فافهم.

(نحو) أي: جهة (بيت المَقْدس) : مصدر ميمي؛ كالمَرْجع، وفي رواية الكشميهني: (في صلاة العصر يصلون نحو بيت المقدس)، وفي الرواية السابقة:

<<  <   >  >>