وأنهم كان يرون جواز البناء كما قدمناه عن ابن عمر وغيره من الصحابة، والحديث الذي ذكره لا يدل على الفرق أصلًا؛ لأنَّ إلقاء النبيِّ عليه السَّلام نعليه يحتمل أن يكون قبل شروعه في الصَّلاة، ويحتمل أن يكون في وسطها، والظاهر: الأول؛ لأنَّ قوله: (يصلي بأصحابه)؛ أي: يتهيَّأ للصلاة بهم، فرآهم جبريل يريدون الصَّلاة، فجاء، فأخبر النبيَّ عليه السَّلام: بأنَّ فيهما قذرًا، ويدل لهذا مجيء جبريل، فإنه لا يجيء إليه وهو في الصَّلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام مشغول بعبادة ربه، فلا يلتفت لما سواه، وجبريل أيضًا لا يخبره وهو في حال العبادة؛ لأنَّ كلًّا منهما عليهما السَّلام في غاية من الأدب في عبادة الربِّ جلَّ وعزَّ.
وقوله في الحديث: (فلما قضى صلاته) : لا يدل على أنَّ الخلع كان في الصَّلاة؛ لأنَّه عليه السَّلام لم يرهم خلعوا نعالهم إلا بعد فراغه من الصَّلاة، بدليل قولهم: (رأيناك ألقيت نعليك)، ورؤيتهم له عليه السَّلام كانت بعد أن شرع في الصَّلاة، فرأوه قد خلع وشرع في الصَّلاة، فخلعوا وشرعوا معه، فبعد فراغهم من الصَّلاة رآهم، والله تعالى أعلم.
(وقال ابن المسيِّب)؛ بكسر التحتية وفتحها: هو سَعِيْد التابعي (والشَّعْبي)؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة: هو عامر التابعي، قال في «عمدة القاري» : وقع للأكثرين: (وقال ابن المسيب)، ووقع للمستملي والسرخسي: (وكان ابن المسيب) بدل (قال).
فإن قلت: فعلى هذا؛ ينبغي أن يثنِّي الضمير؛ لأنَّ المذكور اثنان؟
قلت: أراد كل واحد منهما، انتهى، قلت: ويجوز أن يكون خبر (كان) محذوفًا؛ أي: يقولان؛ فتأمل.
وزعم ابن حجر أن الأكثر بلفظ (قال)، وهو الصواب، وللمستملي والسرخسي بلفظ: (وكان) انتهى.
قلت: وهذا تناقض، فإن قوله: (وهو الصواب)، وتصريحه بالرواية الأخرى كلام من غير رويَّة ولا معنًى؛ لأنَّ المستملي أحفظ الرواة، فجعْلُ روايته خطأ غيرُ صواب، كما لا يخفى، وأيُّ داع إلى قوله: (وهو الصواب)، وما هو إلا كلام مناف فيه تناقض، كما لا يخفى؟ وليس هذا شأن شارح هذا الكتاب، وتمامه في «إيضاح المرام فيما وقع في الفتح من الأوهام»؛ فافهم.
(إذا صلى) أي: الشخص (وفي ثوبه) : الواو للحال؛ أي: والحال أنَّ في ثوبه الذي هو عليه (دم) أقل من قدر الدرهم، (أو) صلى وفي ثوبه الذي عليه (جنابة) أي: أثرها؛ وهو المني، وكان أقل من قدر الدرهم، ففيه: إطلاق الجنابة على المني من قبيل إطلاق السبب وإرادة المسبب، (أو) صلى (لغير القبلة)؛ كالمشارق، والمغارب، والشمال وكان على اجتهاد، (أو تيمم)؛ أي: لعدم وجود الماء المطلق الكافي وكان بينه وبين الماء ميل فأكثر، (وصلى) وفي رواية: (فصلى)؛ أي: فأتم صلاته، (ثم) بعد فراغه منها (أدرك) أي: وجد (الماء) المطلق الكافي لطهارته (في وقته)؛ أي: في وقت هذه الصَّلاة التي صلاها؛ فإنه (لا يعيد)؛ أي: تلك الصَّلاة التي صلاها في هذه الحالة، أمَّا الدم؛ فلأنَّه لمَّا كان أقل من قدر الدرهم؛ كانت الصَّلاة معه صحيحة، لكن مع كراهة التحريم، ويجب إعادتها جبرًا؛ لما حصل بها من الكراهة؛ لأنَّ كلَّ صلاة أديت مع كراهة التحريم؛ يجب إعادتها على وجه غير مكروه، والأولى: هي الفرض، والثانية: جابرة للأولى.
وأما الجنابة -أي: أثرها-؛ فكالدم كما علمت؛ لأنَّ المني نجس عندنا، كما شهدت به الأحاديث الصحيحة، وهذا الأثر يدل له أيضًا؛ فافهم.
وأما على زعم من زعم أنه طاهر؛ فلا كلام له.
وأما الصَّلاة لغير القبلة؛ فإذا كان قد صلى عن تحرٍّ واجتهاد، ثم تبيَّن الخطأ بعد فراغه من الصَّلاة؛ فصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه عند الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، وأحمد، والجمهور، وزعم الشافعية: أنه ليس عليه الإعادة في القديم، والمعتمد عندهم: وجوب الإعادة، وهو القول الجديد، وهذا الأثر حجَّة عليهم؛ لأنَّ الشخص فعل ما في وسعه.
وأمَّا التيمم؛ فإنه إذا لم يجد الماء وكان بينه وبين الماء ميل فأكثر فصلى بالتيمم؛ فصلاته صحيحة، فإذا وجد الماء بعد ذلك؛ فلا إعادة عليه عند الإمام الأعظم، وأصحابه، والثلاثة، وقال في «عمدة القاري» : (وهذا الأثر إنَّما يطابق الترجمة إذا عمل بظاهره على الإطلاق، وأمَّا إذا قيل: المراد من قوله: «دم» : أقل من الدرهم عند من يرى بذلك، أو شيء يسير عند من ذهب إلى أنَّ اليسير عفو، فلا يطابق الترجمة على ما لا يخفى، وكذلك الجنابة لا تطابق عند من يراه طاهرًا) انتهى.
وزعم العجلوني فقال: (إن عمَّمنا في القدر في الترجمة بين القليل وغيره؛ حصلت المطابقة) انتهى.
قلت: ما ذكره قد أخذه من كلام إمامنا الشارح؛ لأنَّه صدَّر كلامه بقوله: (إذا عمل بظاهره على الإطلاق)؛ أي: إن عمَّم في القدر؛ حصلت المطابقة، وقد يقال: بل يتعين حمله على القليل، فلا يطابق الترجمة؛ لأنَّ مراد المؤلف: القليل؛ بدليل الآثار التي ساقها، فإنها تدل على القليل المعفوِّ عنه، كما لا يخفى على من تتبَّع.
[حديث: أن النبي كان يصلي عند البيت وأبو جهل]
٢٤٠ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَبْدان)؛ بفتح العين، وسكون الموحدة، مثنَّى: عبد: هو لقب عبد الله بن عثمان المروزي (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) : هو عثمان بن جَبَلة؛ بفتح الجيم، والموحدة، المروزي، (عن شُعْبة)؛ بضمِّ المعجمة، وسكون المهملة: هو ابن الحجاج، (عن أبي إسحاق) : السَّبِيعي؛ بفتح السين المهملة، وكسر الموحدة، واسمه عمرو بن عبد الله الكوفي التابعي، (عن عَمرو)؛ بفتح العين المهملة (بن مَيمُون)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: أبو عبد الله الكوفي الأَودي؛ بفتح الهمزة، وبالدَّال المهملة، أدرك زمن النبيِّ عليه السَّلام، ولم يَلْقَه، وحج مئة حجة وعمرة، وأدَّى صدقته إلى عمال النبيِّ عليه السَّلام، وهو الذي رأى قردة زنت في الجاهلية، فاجتمعت عليها القردة ورجموها، مات سنة خمس وسبعين، كذا في «عمدة القاري».
قلت: فهو تابعي مخضرم، وهو غير عمرو بن ميمون المخزومي؛ فافهم.
(عن عبد الله)؛ أي: ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنَّه المراد حيث أطلق، كما أنه إذا أطلق الإمام الأعظم؛ فالمراد به: أبو حنيفة النعمان إمام الأئمَّة، ورئيس المجتهدين رضي الله تعالى عنه (قال) وفي رواية: (قال عبد الله) : (بينا) بغير ميم، فإن أصله: (بين)؛ بلا ألف زيدت؛ لإشباع الفتحة، قال في «عمدة القاري» : (وهو مضاف إلى الجملة التي بعده، والعامل فيه: «إذ قال بعضهم لبعض» الآتي بعد التحويل إلى الإسناد الثاني) انتهى.
قلت: وقد تبعه الشراح؛ لأنَّه إمامهم، وهذا هو الصحيح من أن (بينا)؛ بالألف؛ كـ (بينما)؛ بالميم مكفوفان عن الإضافة إلى المفرد، ومضافان للجملة، وهو مذهب الجمهور، وذهب قوم: إلى أنَّ (ما) والألف كافتان عن الإضافة، والجملة بعدهما لا محل لها من الإعراب، وذهب بعضهم: إلى أنَّ الألف لا تكفُّ عن الإضافة إلى الجملة بخلاف (ما)، واختاره المغاربة، كذا في «همع الهوامع»، وتمامه فيه؛ فافهم.
(رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) : فـ (رسول) مبتدأ، خبره قوله: (ساجد)؛ أي: في صلاته، والذي يظهر أنه كان يصلي حينئذ منفردًا، قال في «عمدة القاري» : (وبقية الحديث من رواية عبدان المذكورة: «وحوله ناس من قريش من المشركين...»، ثم ساق الحديث مختصرًا) انتهى؛ فافهم.
(ح) مهملة: إشارة للتحويل من سند إلى آخر، هذا هو الأصح من أقوال سبق ذكرها، ولابن عساكر: (قال)؛ أي: المؤلف: (وحدثني)؛ بالإفراد، وللأصيلي: (وحدثنا) (أحمد بن عثمان)؛ أي: ابن حَكِيم؛ بفتح الحاء المهملة، وكسر الكاف، الأَودي؛ بفتح الهمزة، وبالدَّال المهملة، الكوفي، المتوفى سنة ستين ومئتين (قال: حدثنا شُرَيْح)؛ بضمِّ الشين المعجمة، وفتح الرَّاء، وسكون التحتية، آخره حاء مهملة؛ مصغرًا (بن مَسْلَمَة)؛ بفتح الميم، وسكون السين المهملة، وفتح اللام، والميم الثانية، الكوفي التنوخي، زعم الكرماني أنه بالمثناة الفوقية، وبالنُّون المشددة، وبالخاء المعجمة.
وردَّه في «عمدة القاري» أن نوخ وتنوخ: حي من اليمن، ولا تشدد النُّون، انتهى.
قلت: ويدلُّ لهذا أن أهل اللغة والتاريخ قالوا: بتخفيف النُّون، وعبارة السيوطي في «لبِّ الألباب» : (التَّنُوخي؛ بالفتح، وضم النُّون الخفيفة، ومعجمة: نسبة إلى تنوخ قبائل أقاموا بالبحرين) انتهى؛ فافهم، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين، وهو غير شريح القاضي؛ لأنَّه كان في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.