للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ومع هذا لا يطابق الحديث للترجمة؛ لأنَّ المذكور فيها شيئان، والحديث ليس فيه إلا شيء واحد).

وقال الكرماني: (يدل على الأول صريحًا، وعلى الثاني التزامًا) انتهى؛ أي: لأنَّ الرجال والنساء إذا توضؤوا من إناء واحد؛ فإن الرجل يكون مستعملًا لفضل المرأة، قاله العجلوني.

قلت: وفيه نظر؛ فإن الرجال والنساء إذا توضؤوا من إناء واحد؛ لا يخلو إمَّا أن يكونوا على التعاقب واحدًا بعد آخر، أو كلهم سواء، فإن كان الأول؛ فإن كان النساء قبل الرجال؛ فدلالته على الترجمة ظاهرة، لكن يرده قوله: (جميعًا)، فإن معناه: عدم التفريق، وإن كان الثاني؛ فلا يكون فيه دلالة، ولا يكون الرجل توضأ من فضل المرأة؛ فافهم.

ومع هذا، فإنه روي: (أنه عليه السلام نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة)، وأجيب: بأن حديث الباب الدَّال على الإباحة أصح، فإن قيل: مقتضاه الإباحة إذا استعملا جميعًا، والتنازع إنَّما هو في فضل وضوء المرأة، وأجيب: بأن النهي للاستحباب، أو المراد بالنهي عن فضل أعضائها: هو ما تساقط من أعضائها، والجواز على ما بقي من الماء، وبذلك جمع الخطابي والنووي، قلت: وإذا حُمِلَ النهي على المتساقط؛ لم يبقَ للتخصيص بها فائدة، بل الرجل مثلها، ففيه دلالة على نجاسة الماء المستعمل؛ فافهم.

وما أجاب به العجلوني: (من أن النجاسة إذا وقعت في الماء قبل أن يتوضأ أو معه حكمها سواء، فكذا أن وضوء كل واحد منهما مع الآخر لا يفسد عليه الماء؛ فكذا وضوءها قبله، فالقبلية والمعية سواء) فيه نظر، وهذا قياس مع الفارق، والفرق أنهم إذا توضؤوا جميعًا من إناء واحد؛ لا يفسد الماء، أمَّا إذا توضؤوا على التعاقب؛ فالباقي مستعمل؛ فتأمل.

قال في «عمدة القاري» : وفيه: دليل على جواز وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد، وأمَّا توضؤ الرجل من فضل المرأة سواء خلت به أم لا؛ فمذهب الإمام الأعظم، ومالك، والشافعي: أنه يجوز، قال البغوي وغيره: «ولا كراهة فيه للأحاديث الصحيحة»، وقال أحمد وداود: «لا يجوز إن خلت به»، وروي هذا عن عبد الله بن سرجس والحسن البصري، وروي عن أحمد كمذهبنا، وعن ابن المسيب والحسن: كراهة فضلها مطلقًا، وحكى أبو عمرو فيها خمس مذاهب؛ أحدها: أنه لا بأس أن يغتسل الرجل بفضلها ما لم تكن جنبًا أو حائضًا، والثاني: يكره أن يتوضأ بفضلها وعكسه، والثالث: كراهة فضلها له والرخصة في عكسه، والرابع: لا بأس بشروعهما معًا ولا خير في فضلهما، وهو قول أحمد، والخامس: لا بأس بفضل كل منهما شرعا جميعًا وخلا كل واحد منهما به، وعليه فقهاء الأمصار.

أمَّا اغتسال الرجال والنساء من إناء واحد؛ فقد نقل الحافظ الطحاوي، والقرطبي، والنووي الاتفاق على جواز ذلك، قال ابن حجر: (وفيه نظر لما حكاه ابن المنذر عن أبي هريرة: أنه كان ينهى عنه، وكذا حكاه ابن عبد البر عن قوم)، قال في «عمدة القاري» : (قلت: في نظره نظر؛ لأنَّهم قالوا الاتفاق دون الإجماع، فهذا القائل لم يعرف الفرق بين الاتفاق والإجماع) انتهى، وقد حذا حذو هذا القائل العجلونيُّ حيث قال: (والمعروف عدم الفرق بينهما لغة واصطلاحًا) انتهى، قلت: ولعل عدم الفرق معروف عند أهل عجلون، أما عند العلماء الأعلام من أهل اللغة والاصطلاح؛ فالفرق بينهما ظاهر، أما الإجماع لغة؛ فالعزم على الشيء، يقال: أجمع على كذا؛ أي: عزم عليه، وفي الاصطلاح: فقال أهل الأصول: هو اتفاق مجتهدي عصر من أمَّة محمد عليه السلام على أمر شرعي، فهذا مخصوص بالمجتهدين فما فوقهم إلى وفاته عليه السلام، وأمَّاالاتفاق؛ ففي اللغة: التعاهد، يقال: اتفقوا على كذا؛ أي: تعاهدوا عليه، وفي الاصطلاح: اتفاق أصحاب المجتهدين على أمر شرعي، قاله أحد المجتهدين، مثاله: انعقاد الإجماع على انتقاض الطهارة عند وجود القيء والمس معًا، فمأخذ الانتقاض عندنا: القيء، وهو بالاتفاق ناقض، وعند الشافعي: المس ناقض اتفاقًا، فلو قُدِّرَ عدم كون القيء ناقض؛ فنحن لا نقول بالانتقاض بالمس، فلم يبق الإجماع، ولو قُدِّرَ عدم كون المس ناقضًا؛ فالشافعي لا يقول بالانتقاض، فلم يبق الإجماع أيضًا.

والحاصل: أن الإجماع مخصوص بما بعد وفاة النبي الأعظم عليه السلام إلى عصر المجتهدين، والاتفاق مخصوص بأصحاب المجتهدين؛ فافهم واحفظ.

ثم قال في «عمدة القاري» : (وروي جواز اغتسال الرجال والنساء من [إناء] واحد عن تسعة من الصحابة؛ وهم علي بن أبي طالب عند أحمد قال: «كان عليه السلام وأهله يغتسلون (١) من إناء واحد»، وحديث ابن عباس عند الطبراني في «الكبير» من حديث عكرمة عنه: «أنه عليه السلام وعائشة اغتسلا من إناء واحد من جنابة وتوضأا جميعًا للصلاة»، وحديث جابر عند ابن أبي شيبة في «مصنفه» قال: «كان عليه السلام وأزواجه يغتسلون من إناء واحد»، وحديث أنس عند المؤلف قال: «كان عليه السلام هو والمرأة من نسائه يغتسلون من الإناء الواحد»، ورواه الطحاوي عن أبي بكرة القاضي، وحديث أبي هريرة عند البزار في «مسنده» قال: «كان عليه السلام وأهله يغتسلون من إناء واحد»، وحديث عائشة عند الطحاوي والبيهقي قالت: «كنت اغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد، فيبدأ قبلي»، وحديث أم سلمة عند الطحاوي وابن ماجه قالت: «اغتسلت أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد»، وحديث أم هانئ عند النسائي: «أنه عليه السلام اغتسل هو وميمونة من إناء واحد في قصعة فيها أثر العجين»، وحديث ميمونة عند الترمذي عن ابن عباس قال: قالت: «كنت اغتسل أنا ورسول الله عليه السلام من إناء واحد من الجنابة»، وقال: «حديث حسن صحيح»؛ فهذه الأحاديث كلها حجة على من يَكْرَهُ أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة، أو تتوضأ المرأة بفضل الرجل.

وبقي الكلام في ابتداء أحدهما قبل الآخر، وحديث عائشة المار وقولها: «فيبدأ قبلي» يدل على كراهة توضؤ الرجل من فضل المرأة، ويردُّه ما في أبي داود عن ابن عباس: أن بعض أزواجه عليه السلام اغتسلت من جنابة، فجاء عليه السلام ليتوضأ منها أو يغتسل، فقالت له: يا رسول الله؛ إني كنت جنبًا، فقال عليه السلام: «إن الماء لا يجنب»، وروى الطحاوي وابن ماجه عن أم صفية الجهنية قالت: «ربما اختلفت يدي ويد رسول الله عليه السلام في الوضوء من إناء واحد»، وهذا في حق الوضوء، قال الحافظ الطحاوي: «وهذا يدل على أن أحدهما كان يأخذ من الماء بعد صاحبه»).

ثم قال في «عمدة القاري» : (وروي عن عبد الله بن سرجس قال: نهى النبي عليه السلام أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرجل، ولكن يشرعان (٢) جميعًا، وأخرجه الحافظ الطحاوي والدارقطني، وروي أيضًا من حديث الحكم بن عمر الغفاري قال: «نهى النبي عليه السلام أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة»، أخرجه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والطحاوي.

والبيهقي قال: «نقل عن أحمد أن الأحاديث الواردة في منع التطهير بفضل المرأة وفي جواز ذلك مضطربة»، قال: «لكن صح عن الصحابة المنع فيما إذا دخلت به»، ولكن يعارض هذا ما روي بصحة الجواز عن جماعة من الصحابة الذين ذكرناهم، وأشهر الأحاديث عند المانعين حديث عبد الله بن سرجس، وحديث الحكم الغفاري، أمَّا حديث ابن سرجس؛ فإنه روي موقوفًا ومرفوعًا، قال البيهقي: «الموقوف أولى بالصواب»، وقال المؤلف: «أخطأ من رفعه»).

قال في «عمدة القاري» : (الحكم للرافع؛ لأنَّه زاد، والراوي قد يفتي بشيء ثم يرويه مرة أخرى، ويجعل الموقوف فتوى، فلا يعارض المرفوع، وصححه ابن حزم مرفوعًا من حديث عبد العزيز بن المختار الذي في «مسنده»، والشيخان أخرجا له، ووثقه ابن معين وأبو زرعة، فلا يضره وقف من وقفه، وأما حديث الحكم الغفاري؛ فقال الترمذي: «حديث حسن»، ورجحه ابن ماجه، وصححه ابن حبان، والفارسي، وابن قدامة، فقول النووي: «اتفق الحفاظ على ضعفه» غريب) انتهى، وقدمنا وجه الجمع بينهما؛ فافهم، والله تعالى أعلم.

(٤٤) [باب صب النبي وضوءه على المغمى عليه]

هذا (باب صبِّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم وَضوءه)؛ بفتح الواو: الماء الذي توضأ به، مفعول المصدر المضاف لفاعله، وقوله: (على المُغْمَى عليه)؛ بضم الميم، وإسكان المعجمة، وفتح الميم؛ متعلق به، مِن (أُغمي عليه)، يقال: أُغمي عليه -بضم الهمزة- فهو مغمًى عليه، وغُمِي عليه -بضم الغين المعجمة وتخفيف الميم- فهو مغمي عليه؛ بصيغة المفعول؛ لأنَّ


(١) في الأصل: (يغتسلوا).
(٢) في الأصل: (شرعا)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>