للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

المبتلى به، أو ما يستكثره الناظر أو ثلاث فما دونها قليل، وأنَّ الكسوف آية من آيات الله يخوِّف الله بها عباده، وأنَّ رشَّ الماء على المصلي في الصلاة غير مُفْسِد ولا مكروه، وفيه: ثبوت خروج الدجال في آخر الزمان، وغير ذلك من الأحكام، والله أعلم.

(٣٨) [باب مسح الرأس كله]

هذا (باب مسح الرأس كله) في الوضوء، وسقط في رواية لفظ: (كله) فقط، ومراده: وجوب استيعاب الرأس بالمسح في الوضوء، لكن من اكتفى بالربع منه؛ فقد أجاب عما استدل به، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى؛ (لقوله تعالى)، وفي رواية: (سبحانه وتعالى)، وفي أخرى: (عز وجل) : ({وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ}) [المائدة: ٦]؛ بناءً على أن الباء زائدة؛ أي: امسحوا رؤوسكم كلها، كما قال به مالك وأحمد.

(وقال) سعيد (ابن المسيِّب)؛ بكسر المثناة التحتية وفتحها: (المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها)؛ أي: جميعه، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة بلفظ: (المرأة والرجل في مسح الرأس سواء)، لكنه ليس صريحًا في وجوب التعميم، إلا إن ثبت عنه أنه يوجب التعميم في الرجل، فيُحْتَمَلُ أنهما سواء في أصل المسح، وعلى الأول هذا الأثر لا يساعد المؤلف في ثبوته لمسح كل الرأس، ونقل عن أحمد أنه قال: (يكفي المرأة مسح مقدَّم رأسها)؛ فتأمل.

(وسُئِلَ) على صيغة المجهول (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، والسائل له: إسحاق بن عيسى بن الطباع، كما بيَّنه ابن خزيمة في «صحيحه» من طريقه، ولفظه: (سألت مالكًا عن الرجل يمسح مقدم رأسه في وضوئه، أيجزئه ذلك؟ فقال: حدثني عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عبد الله بن زيد قال: مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه من ناصيته إلى قفاه، ثم ردَّ يديه إلى ناصيته، فمسح رأسه كله)، قلت: وهذا السياق أصرح للترجمة من الذي ساقه المؤلف بقوله: (أيَجزي)؛ بفتح المثناة التحتية، من جزى يَجزي؛ أي: كفى، والهمزة فيه للاستفهام، أو بضم التحتية وهمز آخره، من الإجزاء: وهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به، كذا في «عمدة القاري» ن قال ابن التين: (قرأناه غير مهموز، وضُبِطَ في بعض الكتب؛ بالهمز وضم الياء على أنَّه رباعي من أجزأ)؛ فتأمل، (أن يمسح بعض) ولابن عساكر: (ببعض)؛ بباءين على تعلقه بـ (يجزي) (الرأس؟)؛ أي: رأسه، كما في رواية الأكثرين، و (أن يمسح...) إلخ: فاعل (يجزي) ومفعوله كفاعل (يمسح) محذوف عائد إلى المتوضئ المدلول عليه بالمقام.

(فاحتجَّ)؛ أي: مالك على أنَّه لا يجزئ مسح بعض رأسه (بحديث عبد الله بن زيد) الذي ساقه المؤلف هنا، والمعنى: لما سُئِلَ عن مسح الرأس؛ روى هذا الحديث واحتجَّ به على أنَّه لا يجوز أن يقتصر على بعض الرأس، قال ابن حجر: (موضع الدلالة من الحديث والآية: أنَّ لفظ الآية مجمل؛ لأنَّه يحتمل أن يراد بها مسح الكل على أن الباء زائدة، أو مسح البعض على أنها تبعيضية، فتبين بفعل النبي عليه السلام أنَّ المراد الأول).

واعترضه في «عمدة القاري» بأنَّه لا إجمال في الآية، وإنما الإجمال في المقدار دون المحل؛ لأنَّ الرأس وهو معلوم وفعله عليه السلام كان بيانًا للإجمال الذي في المقدار، وهذا القائل لو علم معنى الإجمال؛ لما قال: لفظ الآية مجمل، انتهى.

واعترضه العجلوني بأن إجمال المقدارِ كافٍ في كون الآية مجملة.

قلت: ورُدَّ بأن إجمال المقدار خارج عن الآية بدليل أنَّه فهم من الحديث بيانه، فلفظ الآية مُبَيِّنٌ لأصل وجوب المسح، فلا إجمال فيها، والسنة بينت مقداره، فالإجمال في المقدار لا في الآية؛ فافهم.

قلت: وأجاب الجمهور: بأن الأصل عدم الزيادة، وكلامه تعالى وحروف كلامه تصان عن الزيادة بلا فائدة، بل الباء هنا للإلصاق؛ وهو معناها الأصلي عند المحققين.

وقال العلَّامة البغوي: (القرآن يوجب مسح الجميع، والسنة خصَّصته بقدر الناصية، فلا يسقط الفرض بأقل من قدر الناصية)، واعترضه الكرماني بأنَّ كلام العرب يشهد لعدم العموم؛ لأنَّهم يقولون: مسحت المنديل؛ فيفيد العموم، ومسحت به؛ فيفيد البعض.

قلت: وهو ممنوع، فإنَّ النبي الأعظم عليه السلام هو أفصح العرب قد فسَّر ذلك بفعله، وهو أنَّه مسح على ناصيته، وكيف يُستدَّل بكلام العرب ويُتْرَك تفسير أعرب العرب؟! فإنه إذا وجد تفسير النبي الأعظم عليه السلام؛ يتعين المصير إليه؛ لأنَّه الشارع، وإنما يصار إلى كلام العرب عند عدم تفسيره عليه السلام.

والحاصل: أنَّ ما ذهب إليه الإمام الأعظم وأصحابه من وجوب مسح الناصية يشهد له الآية من حيث أصل المسح، والحديث من حيث بيان أنه مقدار الناصية، وأمَّا ما ذهب إليه مالك وأحمد من وجوب الاستيعاب؛ يشهد له الآية من حيث الأصل، والحديث من حيث إن ظاهره أنَّه يدل على الاستيعاب، وأمَّا ما ذهب إليه الشافعي من وجوب بعض المسح، وهو قدر شعرة أو شعرتين (١)؛ يشهد له الآية على أن معنى الباء: التبعيض، وهو ضعيف، وأمَّا الأحاديث؛ فلم يوجد فيها شيء يدل على التبعيض، فلا ريب أنَّ ما ذهب إليه إمامنا أرجح وأقوى، واستدلال الشافعي بكلام العرب ليس بشيء مع وجود الأحاديث الدَّالة على بيان المقدار في وجوب المسح؛ فافهم ذلك.

[حديث عبد الله بن زيد في مسح الرأس كله]

١٨٥ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا)، وفي رواية: (حدثنا) (مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن عَمرو بن يحيى)؛ بفتح العين المهملة، ابن عُمَارة؛ بضمها وتخفيف الميم (المازني) الأنصاري، (عن أبيه) : يحيى المذكور بن عمارة بن أبي حسن واسمه تميم، وله صحبة، وكذا لعمارة ولده فيما جزم به ابن عبد البر، قال أبو نعيم فيه نظر، وقال الذهبي: عمارة بن أبي حسن المازني له صحبة، وقيل: أبوه بدري وعقبي، كذا في «عمدة القاري» : (أن رجلًا) : هو عمرو بن أبي حسن، كما سيأتي في الحديث الآتي من طريق وهيب (قال لعبد الله بن زيد)؛ أي: ابن عاصم الأنصاري المازني، ووقع في رواية مسلم: (عن عبد الله بن زيد قال: قيل له: توضأ لنا) ... ؛ فذكر الحديث، (وهو)؛ أي: الرجل المفسَّر بعمرو بن أبي حسن (جدُّ عمرو بن يحيى)؛ أي: المذكور، لكن مجازًا لا حقيقة؛ لأنَّه عم أبيه، وأطلق عليه (جدًّا)؛ لكونه في منزلته، قال في «عمدة القاري» : ووهم من زعم أنَّ المراد بقوله: (وهو) عبد الله بن زيد؛ لأنَّه ليس جدًّا لعمرو بن يحيى لا حقيقة ولا مجازًا، وأما قول صاحب «الكمال» : (إن عمرو بن يحيى ابن بنت عبد الله بن زيد)، فغلط توهَّمه من هذه الرواية، وذكر ابن سعد: (أن أمَّ عمرو بن يحيى هي حميدة بنت محمد بن إياس بن بكير)، وقال غيره: (هي أم النعمان بنت أبي حبة)، واختلف رواة «الموطأ» في تعيين السائل، فأبهمه أكثرهم، وقال معن بن عيسى، عن عمرو، عن أبيه يحيى: أنه سمع أبا حسن، وهو جد عمرو بن يحيى قال لعبد الله بن زيد وكان من الصحابة... ؛ فذكر الحديث، وقال محمد بن الحسن الشيباني، عن مالك: حدثنا عمرو بن يحيى، عن أبيه يحيى: أنه سمع جده أبا حسن يسأل عبد الله بن زيد، وكذا ساقه سحنون في «المدونة»، وقال الشافعي في «الأم» : (عن مالك، عن عمرو، عن أبيه، قال لعبد الله بن زيد)، قال في «عمدة القاري» أيضًا: فإن قلت: هل يمكن أن يجمع هذا الاختلاف؟ قلت: يمكن أن يقال: اجتمع عند عبدِ الله بن زيد ابنُ أبي حسن الأنصاري وابنُه عمرو وابنُ ابنه يحيى بن عمارة بن أبي حسن، [فسألوه عن صفة وضوء النبي، وتولى السؤال منهم له عمرو (٢) بن أبي حسن] (٣)، فحيث نُسِب إليه السؤال؛ كان على الحقيقة، ويؤيِّده رواية سليمان بن بلال عند المؤلف في باب (الوضوء من التور) قال: (حدثني عمرو بن يحيى عن أبيه قال: كان عمي -يعني: عمرو بن أبي حسن- يُكْثِرُ الوضوء، فقال لعبد الله بن زيد: أخبرني...)؛ فذكره، وحيث نُسِب السؤال إلى أبي حسن، فعلى المجاز؛ لكونه كان الأكبر، وكان حاضرًا، وحيث نُسِب السؤال ليحيى بن عمارة، فعلى المجاز أيضًا؛ لكونه ناقل الحديث، وقد حضر السؤال أيضًا، ويؤيِّد هذا الجمع ما في رواية الإسماعيلي من طريق وهب بن بقية عن خالد الواسطي بلفظ: (قلنا له) بلفظ الجمع الدَّال على أنَّهم كلهم اتفقوا على السؤال، غير أن السائل منهم كان عمرو بن أبي حسن، ويؤيده أيضًا ويوضِّحه ما رواه أبو نعيم في «المستخرج» من حديث الدراوردي، عن عمرو بن يحيى، عن أبيه، عن عمه عمرو بن أبي حسن قال: كنت كثير الوضوء، فقلت لعبد الله بن زيد... ؛ فذكر الحديث، انتهى.

ومثله ذكره ابن حجر وتبعهما العجلوني، وأمَّا القسطلاني؛ فاقتصر، فلم يوضِّح هذا الإيضاح، فلله درُّ صاحب «عمدة القاري» ما أغزر


(١) في الأصل: (شعره)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في «عمدة القاري» : (عمارة)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) ما بين معقوفين سقط منالأصل، وهو مستفاد من «عمدة القاري».

<<  <   >  >>