للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

السمن، وتُرْمَى به، ولكن إذا تحقق أن شيئًا منها إذا لم يصل إلى شيء خارج عما حولها، والباقي يُؤْكَل، ويقاس على هذا نحو العسل والدبس إذا كان جامدًا؛ فيجري فيه هذا الحكم، وأما المائع؛ فقد اختلفوا فيه؛ فذهب الجمهور إلى أنَّه ينجس كله قليلًا كان أو كثيرًا، وقد شذَّ قوم؛ فجعلوا المائع كله كالماء، ولا يعتبر ذلك؛ لأنَّهم ليسوا عند أهل العلم ممن يعتد لهم بخلاف، فلا وجه للاشتغال برده، وسلك داود بن علي الظاهري مسلكهم إلا في السمن الجامد والذائب، فإنه تبع فيه ظاهر هذا الحديث، وخالف معناه في العسل والخل وسائر المائعات، فجعلها كلها في لحوق النَّجاسة إياها بما ظهر فيها، فشذ أيضًا، ويلزمه ألَّا يتعدى الفأرة، كما لا يتعدى السمن، قال: واختلف العلماء في الاستصباح به بعد إجماعهم على نجاسته، فقالت طائفة: لا يستصبح به، ولا ينتفع بشيء منه، وممن قال بذلك الحسن بن صالح وأحمد ابن حنبل محتجين بالرواية المذكورة، وإن كان مائعًا؛ فلا تقربوه، وبعموم النهي عن الميتة في الكتاب العزيز، وقال آخرون: يجوز الاستصباح به والانتفاع في كل شيء إلا الأكل والبيع، وهو قول مالك بن أنس، ومحمَّد بن إدريس، والثوري، أما الأكل؛ فمجمع على تحريمه إلا الشذوذ الذي قدمناه، وأما الاستصباح؛ فروي عن علي وابن عمر رضي الله عنهم: أنهما أجازا ذلك، ومن حجتهم في تحريم بيعه قوله عليه السَّلام: «لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها، وأكلوا ثمنها، إن الله إذا حرم أكل شيء؛ حرم ثمنه»، وقال الجمهور منهم: يجوز أن ينتفع به، ويجوز بيعه، ولا يؤكل، وممن قال بذلك: الإمام الأعظم، والإمام أبو يوسف، والإمام محمَّد، وأصحابه، والليث بن سعد، وقد روي ذلك عن أبي موسى الأشعري، والقاسم، وسلام محتجين بالرواية الأخرى وإن كان مائعًا، فاستصبحوا به، وانتفعوا به، والبيع من باب الانتفاع.

وأما قوله في حديث عبد الرزاق: (وإن كان مائعًا؛ فلا تقربوه)؛ فيحتمل أن يراد به الأكل، وقد أجرى صلَّى الله عليه وسلَّم التحريم في شحوم الميتة من كل وجه، ومنع الانتفاع بشيء منها غير الأكل، ومن حجة النظر: أن شحوم الميتة محرمة العين والذات، وأما الزيت ونحوه إذا وقعت فيه الفأرة الميتة؛ فإنما يَنْجُس بالمجاورة، وما يَنْجُس بالمجاورة؛ فبيعه جائز؛ كالثوب تصيبه النَّجاسة من الدم وغيره؛ فيصح بيعه.

وأما قوله عليه السَّلام: «إن الله إذا حرم أكل شيء؛ حرم ثمنه»؛ فإنما حرم على لحوم الميتة التي حرم أكلها، ولم يُبَحِ الانتفاع بشيء منها، وكذلك الخمر، وأجاز عبد الله بن نافع: غسل الزيت وشبهه تقع فيه الميتة، وروي عن مالك أيضًا، وصفته: أن يعمد إلى ثلاثة أوان أو أكثر، فيجعل النجس في واحدة منها حتى يكون نصفها أو نحوه، ثم ينصَبُّ عليه الماء حتى يمتلئ، ثم يؤخذ الزيت من أعلى الماء، ثم يجعل في آخر، ويعمل به كذلك، ثم في آخر، وهو قول ليس لقائله سلف فيه، ولا تسكن النفس إليه.

وقال الإمام أبو يوسف رضي الله عنه: يطهر ما لا ينعصر بالعصر بغسله ثلاثًا، وتجفيفه في كل مرة، وذلك كالحنطة، والخرقة الجديدة، والحصير، أو السكين المموه بالماء النجس، واللحم المغلي بالماء النجس، فالطريق فيه أن تُغْسَلَ الحنطة ثلاثًا، وتجفف في كل مرة، وكذلك الحصير، وتغسل الخرقة حتى لا يبقى له بعد ذلك طعم، ولا لون، ولا رائحة، وتُمَوَّه السكين بالماء الطاهر ثلاث مرات، ويُطْبَخ اللحم ثلاث مرات، ويجفف في كل مرة، ويرد من الطبخ، وأما العسل، واللبن، ونحوهما إذا ماتت فيه فأرة ونحوها؛ فتجعل في الإناء، وتصب فيه الماء، ويطبخ حتى يعود إلى ما كان، هكذا يفعل ثلاث مرات.

وقال الإمام محمَّد بن الحسن رضي الله عنه: ما لا ينعصر بالعصر إذا تنجس؛ لا يطهر أبدًا، وقد روي ذلك عن عطاء، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عنه قال: ذكروا أنه يُدْهَنُ به السفن، ولا يمس ذلك، ولكن يؤخذ بعود، فقلت: يُدْهَنُ به غير السفن؟ قال: لم يعلم، قلت: وأين يُدْهَنُ به من السفن؟ قال: ظهورها ولا يُدْهَنُ بطونها، قلت: فلا بد أن يمس، قال: يغسل يديه من مسه، وقد روي عن جابر: المنع من الدهن به، وعن سحنون: إن موتها في الزيت الكثير غير ضار، وليس الزيت كالماء، وعن عبد الملك: إذا وقعت فأرة أو دجاجة في زيت أو بئر؛ فإن لم يتغير طعمه ولا ريحه؛ أزيل ذلك منه، ولم يتنجس، وإن ماتت فيه؛ تنجس وإن كثر (١)؛ لأنَّ الفأرة حال حياتها طاهرة عندنا وعند مالك، وقول ابن العربي: إنها نجسة عندنا خطأ، بل النَّجاسة قول الشافعي، والله تعالى أعلم، انتهى.

[حديث: خذوها وما حولها فاطرحوه]

٢٣٦ - وبه قال: (حدثنا علي بن عبد الله) هو ابن المديني (قال: حدثنا مَعْن)؛ بفتح الميم، وسكون العين المهملة، آخره نون: ابن عيسى أبو يحيى القزَّاز -بالقاف، والزايين المنقوطتين؛ أولاهما مشددة- المدني، كان له غلمان حاكة وهو يشتري القز، ويلقي إليهم، وكان يتوسد عُقْبَة بن مالك، قرأ «الموطأ» على مالك للرشيد وبنيه، مات سنة ثمان وتسعين ومئة (قال: حدثنا مالك) : هو ابن أنس الأصبحي، (عن ابن شهاب) : محمَّد بن مسلم الزُّهري، (عن عُبيد الله)؛ بضمِّ العين، بالتصغير (بن عبد الله)؛ بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الفوقية، وفتح الموحدة بعدها (بن مسعود) رضي الله عنهما، و (عُتْبَة) : هو أخ عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجمعين، (عن ابن عباس) : عبد الله رضي الله عنهما، (عن مَيْمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وسكون التحتية، وضم الميم الثانية: بنت الحارث أم المؤمنين، وخالة ابن عباس رضي الله عنهما: (أنَّ النبيَّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم سُئل)؛ بضمِّ السين المهملة، مبني للمجهول، فالظاهر هنا وفيما سبق: أن السائل غير ميمونة، وزعم ابن حجر أن السائل عن ذلك هي ميمونة، ووقع في رواية القطان، وجويرة عن مالك في هذا الحديث: (أن ميمونة استفتت)، رواه الدارقطني.

وردَّه في «عمدة القاري» : بأن في رواية البخاري من طريقين صريح بأنَّ السائل غير ميمونة مع أنه يحتمل أنها هي، ولكن لا يمكن الجزم بأنَّها هي السائلة، كما جزم به هذا القائل، انتهى.

واعترضه العجلوني: بأنَّه إذا كان في رواية البخاري تصريح بأنَّ السائل غيرها كيف يحتمل أن تكون هي؟ انتهى.

قلت: ولا يخفى عليك أن ميمونة زوجة النبيِّ الأعظم عليه السَّلام وهي عنده في مجسله، فجاء السائل وسأله عن حكم وقوع الفأرة، فأجابه عليه السَّلام عن ذلك، ثم إن ميمونة سألت النبيَّ عليه السَّلام عن ذلك حتى تعلم الحكم الذي قصه عليه السَّلام، فأجابها عليه السَّلام بذلك أيضًا، فالقصة واحدة، والسائل متعدد، ويحتمل تعدد القصة أيضًا، ويحتمل أن السائل غير معلوم، ورواية الدارقطني لا تدل على أنَّ ميمونة سألت؛ لأنَّه يحتمل أن السائلة امرأة عندها أمرتها بالسؤال منه عليه السَّلام؛


(١) في الأصل: (كثير).

<<  <   >  >>