للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كليهما)، وفيه أحاديث أخر لا نطيل بذكرها.

(ثم غسل رجليه إلى الكعبين)؛ أي: معهما، وهما العظمان الناتئان عند ملتقى الساق والقدم، هكذا فسره أهل اللغة، والدليل عليه: قول النعمان بن بشير حين قال النبي الأعظم عليه السلام: «أقيموا صفوفكم» : لقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وبهذا قال إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم وجميع أصحابه، وقال مالك: (الكعب: هو الملصق بالساق، والمحاذي للعقب)، وما نسبه ابن حجر والعجلوني إلى الإمام الأعظم، من أنه الشاخص في ظهر القدم، فلا أصل له، وهو خطأ ظاهر، وافتراء على هذا الإمام، وإنما قال الإمام محمد الشيباني في المُحْرِم: (إذا لم يجد النعلين؛ فيلبس الخفين، ويقطعهما أسفل من الكعبين)، وفسر الكعب في ذلك: (بأنه الذي في ظهر القدم عند مَعْقَدِ الشراك)، فأخذ ذلك هشام تلميذ الإمام محمد ونقله إلى الوضوء على طريق الغلط والسهو، فتمسك بذلك المتعصبون المتعنتون، ونسبوه إلى الإمام الأعظم، وقد اتفق الشراح والمتون والفتاوى على أنَّ تفسير هشام لذلك خطأ من هشام، وليس ذلك بمراد للإمام محمد، كما صرَّح بذلك في كتبه؛ ظاهر الرواية الستة، فمن زعم ذلك ونسبه للإمام الأعظم؛ فهو مخطئ ومفترٍ، ويكفيه أنه كاذب فيما قاله؛ فافهم.

وفي المجيء بالغاية في الآية دليل لكونهما مغسولتين لا ممسوحتين؛ لأنَّ المسح لم تضرب له غاية في الشريعة، والخلاف في غسل الكعبين مع الرجلين كالخلاف في غسل المرفقين مع الذراعين، كما قدمناه؛ فافهم، والله أعلم.

(٤٠) [باب استعمال فضل وضوء الناس]

هذا (باب: استعمال فضل وَضوء) بفتح الواو (الناس) في التطهير وغيره، يحتمل أن المراد من فضل الوضوء: هو ما يبقى في الظرف بعد الفراغ من الوضوء وغيره كالشرب والطبخ والعجين، أو فَضَل عن غسل ثوب أو إناء طاهر، وهذا لا خلاف في طهارته وجواز التوضؤ والتطهير به، ويحتمل أن يراد به: الماء الذي يتقاطر من أعضاء المتوضئ، وهو الماء المستعمل، وسببه: رفع الحدث أو لأجل القربة أي: الثواب، والظاهر أن هذا هو المراد، واختلف فيه؛ فروي عن الإمام الأعظم ثلاث روايات، فروى الإمام أبو يوسف عنه: أنه نجس مخفف، وحكى الشافعي في «الأم» عن شيخه محمد بن الحسن: أن أبا يوسف رجع عنه، ثم رجع إليه بعد شهرين، وروى الإمام الحسن بن زياد عن الإمام الأعظم: أنه نجس مغلظ، وروى الإمام محمد بن الحسن، والإمام زفر، وعامر، عن الإمام الأعظم: أنه طاهر غير طهور.

وجه رواية النجاسة: ما رواه المؤلف ومسلم وأصحاب «السنن» الأربعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم، ولا يغتسلَنَّ فيه من الجنابة»، وفي رواية: «ثم يغتسل فيه من الجنابة»، وفي أخرى: «لا يغتسل فيه من الجنابة»، وذلك أنه حرم الاغتسال في الماء القليل؛ لإجماعنا على أن الاغتسال في الماء الكثير ليس بحرام، فلولا أن القليل من الماء ينجس بالاغتسال بنجاسة الغسالة؛ لم يكن للنهي معنًى؛ لأنَّ إلقاء الطاهر في الطاهر ليس بحرام، أما تنجيس الطاهر؛ فحرام، فكان هذا نهيًا عن تنجيس الماء الطاهر بالاغتسال، وهذا يقتضي التنجيس به.

لا يقال: يحتمل أنه نهيٌ؛ لما فيه من إخراج الماء من أن يكون مطهرًا من غير ضرورة، وذلك حرام؛ لأنَّا نقول: الماء القليل إنَّما يخرج عن كونه مطهرًا باختلاط غير المطهر به إذا كان الغير غالبًا عليه كماء الورد، أما إذا كان مغلوبًا؛ فلا، وههنا الماء المستعمل: ما يلاقي البدن، ولا شك أن ذلك أقل من غير المستعمل، فكيف يخرج به من أن يكون مطهرًا، أمَّا ملاقاة النجس الطاهر؛ فتوجب تنجيس الطاهر، وإن لم يغلب على الطاهر؛ لاختلاطه بالطاهر على وجه لا يمكن التمييز بينهما، فيحكم بنجاسة الكل، فثبت أن النهي لما قلنا.

ولا يقال: يحتمل أنه نهي؛ لأنَّ أعضاء الجنب لا تخلو عن النجاسة الحقيقية، وهي توجب تنجيس الماء القليل؛ لأنَّا نقول: الحديث مطلق، فيجب العمل بإطلاقه، ولأن النهي عن الاغتسال ينصرف إلى الاغتسال المسنون؛ لأنَّه المتعارف بين المسلمين، والمسنون منه: إزالة النجاسة قبل الاغتسال، على أن النهي عن إزالة النجاسة الحقيقية التي على البدن استفيدت بالنهي عن البول فيه، فيوجب عمل النهي على الاغتسال فيه؛ لما ذكرنا؛ صيانة لكلام الشارع عن الإعادة الخالية عن الفائدة.

لا يقال: القِرَان في النظم لا يوجب القِرَان في الحكم، فلا يلزم تنجيس الماء بالاغتسال؛ لأنَّا نقول: إنَّ مطلق النهي للتحريم خصوصًا إذا كان مُؤكَّدًا بنون التأكيد؛ لا باعتبار القران، على أنَّ القِران معتبر هنا، فإنَّه عليه السلام قد قرن المستعمل بالبول، وهو نجس إجماعًا، فدل على أن الاغتسال فيه كالبول فيه، وللقران في الحكم شواهد كثيرة من القرآن العظيم، والأحاديث الشريفة، ويدل عليه أنَّه تعالى عقب الأمر بالوضوء والتيمم: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: ٦]، فدل إطلاق التطهير على ثبوت النجاسة في أعضاء الوضوء، ودل الحكم بزوالها بعد التوضؤ على انتقالها إلى الماء، فيجب الحكم بالنجاسة، لكنِ الإمامُ أبو يوسف جعل النجاسة خفيفة، وذلك لعموم البلوى فيه؛ لتَعَذُّرِ صيانة الثياب عنه، ولكونه محل اجتهاد، فأوجب ذلك تخفيفًا في حكمه.

ووجه رواية التغليظ: أنها نجاسة حكمية، وهي أغلظ من الحقيقية؛ بدليل أنه لا يعفى عن شيء قليل منها، وأمَّا الحقيقية، فيعفى عن قليلها، فهي أغلظ، وقد أطال في «فتح القدير»، و «البحر الرائق» في الاستدلال، ورجح رواية التخفيف؛ فراجعهما، ولولا الإطالة؛ لذكرناه.

ورواية الطهارة هي المعتمدة، وهي قول الإمام محمد، وبه قال زفر والشافعي في القديم، وهو الأصح عنده، وأحمد على الراجح؛ على أن الماء المستعمل طاهر غير طهور، وبه أخذ أكثر أئمتنا، واختارها المحققون وعلماء العراق، ونفوا الخلاف، وقالوا: إنه طاهر عند الكل، وقد قال في «المجتبى» : (صحت الرواية عن الكل أنه طاهر غير مطهِّر، فالاشتغال بتوجيه التغليظ والتخفيف مما لا جدوى له)، كذا في «النهر»، وممن صرح بأن رواية الطهارة ظاهر الرواية وعليها الفتوى صاحبُ «الكافي» و «المصفى» و «الذخيرة»؛ كما قاله في «شرح الدرر» وفي «شرح المنية»، وهو ظاهر الرواية وعليه الفتوى وهو الصحيح، كما في «الجوهرة» و «شرح الهاملية»، وهو المختار، كما في «الملتقى»، وعليه الفتوى، كما في «فتح القدير» و «النهر»، وقال في «الفتاوى البزازية» : (الصحيح أن الإمام الأعظم قائل بالطهارة، كما قاله الإمام محمد)، والفتوى عليه، كما في «التقريب»، و «الخلاصة»، و «المفيد»، وغيرها من الكتب المعتبرة؛ لأنَّ الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا المستعمل في أسفارهم القليلة الماء ليتطهروا به، بل عدلوا إلى التيمم، فلو كان طهورًا لجمعوه، فدل على أنه لا يجوز استعماله مرة ثانية.

فإن قيل: تركوا الجمع؛ لأنَّه لا يُجمَع منه شيء؛

<<  <   >  >>