للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وذلك، قبل أن تهاجرا إلى المدينة، وفي رواية: ذكرها القسطلاني ولم يَعْزُها لأحد: (رأياها)؛ بمثناة تحتية.

قلت: والظاهر: أنَّها تحريف من النساخ، والحاصل: أن الأكثر: (رأينها)؛ بنون جمع يحتمل على أن أقل الجمع اثنان، ويحتمل على أنَّه كان معهما غيرهما من النسوة، وهو الظاهر، والرواية الثانية بمثناة فوقية وضمير التثنية على الأصل، والرواية الثالثة الله أعلم بصحتها.

(فيها تصاوير)؛ أي: تماثيل، جمع (تِمثال)؛ بكسر المثناة الفوقية، قيل: كانت من زجاج، ونحاس، ورخام، وقيل: طلمسات كان يعملها، ويحرم على كل مُضرٍّ أن يتجاوزها، فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالًا (١) للذباب، أو للبعوض، أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزوها، فلا يتجاوزه واحد أبدًا مادام ذلك التمثال، والجملة اسمية محلها نصب؛ صفة لكنيسة، (فذكرتا ذلك للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: ذكرتا هذه التصاوير في تلك الكنيسة، وقيل: إنَّها صور الأنبياء عليهم السلام، والعلماء، والعباد، وغيرهم، ويدلُّ لذلك قوله: (فقال)؛ أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لهما: (إنَّ أولئكِ)؛ بكسر الكاف؛ لأنَّ الخطاب لمؤنث، وقد تفتح الكاف (إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات)؛ عطف على (كان)، وجواب (إذا) قوله: (بنوا على قبره مسجدًا وصوروا فيه تِيْك الصور)؛ بكسر المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفي رواية أبي ذر وابن عساكر: (تلك)؛ باللام بدل المثناة التحتية؛ يعني: كانت تصور في معابدهم؛ ليراها الناس، فيزدادوا (٢) في العبادة، ويجتهدوا فيها، ويتذكروا عبادتهم، وهذا يدلُّ على أنَّ التصوير كان مباحًا في ذلك الزمان، وقد نسخ ذلك في شرعنا، ويدلُّ على ذلك قوله عليه السَّلام: (فأولئكِ)؛ بكسر الكاف خطاب للمؤنث، وقد تفتح، وفي رواية: (وأولئك)؛ بالواو (شِرار الخلق عند الله يوم القيامة)؛ بكسر الشين المعجمة، جمع: (الشر)؛ كخيار جمع: (خير)، وتِجَار جمع: (تجر)، وأما الأشرار؛ فقال يونس: (واحدها: شر أيضًا).

وقال السفاقسي: (جمع شر كزند وأزناد).

وقال الأخفش: (شرير؛ مثل يتيم وأيتام).

قال القرطبي: (إنما صوَّر أوائلهم الصور؛ ليستأنسوا برؤية تلك الصور، ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم، ثم خَلَف من بعدهم خلوف جهلوا مرادهم، ووسوس لهم الشيطان: إنَّ أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظِّمونها، فعبدوها، فحذَّر النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن مثل ذلك؛ سدًّا للذريعة المؤدية إلى ذلك، وسدُّ الذرائع في قبره الشريف عليه السَّلام، وكان ذلك في يوم مرض موته؛ إشارةً إلى أنَّه من الأمر المحكم الذي لا ينتسخ بعده، ولما احتاجت الصحابة رضي الله عنهم والتابعون إلى زيادة مسجده المعظَّم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مستديرة حوله؛ لئلَّا يصل إليه العوام، فيؤدِّي ذلك إلى المحذور، ثم بنوا على القبر جدارين بين ركني القبر الشمالي، حرفوهما حتى التقيا حتى لا يمكن أحد أن يستقبل القبر الشريف) انتهى.

وقال البيضاوي: (لَّما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء؛ تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبلة يتوجَّهون في الصلاة نحوها، واتَّخذوها أوثانًا؛ لعنهم النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، ومنع المسلمين عن ذلك، فأمَّا من اتَّخذ مسجدًا في جوار صالح، وقصد التبرُّك بالقرب منه لا للتعظيم له ولا للتوجُّه إليه؛ فلا يدخل في الوعيد المذكور)، وقال ابن بطال: (وفي الحديث نهي عن اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير، وإنما نهي عنه؛ لاتخاذهم القبور والصور آلهة، وفيه دليل على تحريم التصوير للحيوان خصوصًا الآدمي الصالح، وفيه منع بناء المساجد على القبور، ومقتضاه التحريم، كيف وقد ثبت اللعن عليه؟) انتهى.

قلت: ويستثنى من النهي عن اتخاذ القبور مساجد ما إذا كانت المقبرة دائرة، فبناء المسجد عليها؛ ليصلَّى فيه لا بأس بذلك، وبه صرَّح الإمام الجليل قاضيخان من أهل المذهب المعظم، وبه صرَّح البندنجي من الشافعية، وذلك لأنَّ المقابر وقف، وكذا المسجد، فمعناهما واحد، كما لا يخفى، وقوله: (وفيه النهي عن فعل التصاوير) يدل عليه حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق يقول: إنِّي وكِّلت بثلاث: بكل جبارعنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا (٣) آخر، والمصورين»، رواه الترمذي، وقال: (هذا حديث حسن غريب صحيح)، وفي «البخاري «و «مسلم» عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة المصورون»، وهذا يدلُّ على المنع من تصوير شيء أيُّ شيء كان، قال تعالى: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنْبِتُوا شَجَرَهَا} [النمل: ٦٠].

وقوله: (وفيه منع بناء المساجد...) إلى آخره؛ يعني: أن يسوَّى القبر أو القبور مسجدًا (٤) يصلَّى فيه، وهذا مكروه، وهو ليس على إطلاقه، وفيه تفصيل، فإن كانت المقبرة للكفار؛ فيجوز نبشها، واتِّخاذ مكانها مسجدًا، وقد ترجم له المؤلف فيما مضى، وإن كانت للمسلمين؛ فيحرم ذلك، سواء كان فيها قبور أحد الأنبياء أو المسلمين؛ لأنَّ حرمة المسلم لا تزول حيًّا وميتًا، وفي ذلك إهانة له، فيحرم ذلك، كما لا يخفى، إلا إذا كانت المقبرة دائرة؛ فلا بأس بأن يجعل عليها مسجدًا (٥) يصلى فيه؛ لأنَّ كل ذلك وقف منفعة للمسلمين.

وقال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: جواز حكاية ما يشاهده المرء من العجائب، ووجوب بيان حكم ذلك على العالم به، وفيه: ذم الفاعل للمحرمات، وفيه: أن الاعتبار في الأحكام بالشرع لا بالعقل) انتهى.

وقد سبق: أنَّ الصلاة في المقبرة لا تصحُّ عند أحمد، والظاهرية، وأبي ثور، وتصحُّ وتكره عند الإمام الأعظم، والثوري، والأوزاعي، ومالك بن أنس، والشافعي فيما قاله الرافعي، وتصحُّ بدون كراهة عند الحسن البصري، وتبعه القاضي حسين، وهو مروي عن ابن عمر، كما قدمناه، والله تعالى أعلم.

[حديث: يا بني النجار ثامنوني بحائطكم هذا]

٤٢٨ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا مسدد)؛ هو ابن مسرهد البصري (قال: حدثنا عبد الوارث)؛ هو ابن سعيد التميمي البصري، (عن أبي التَيَّاح)؛ بفتح الفوقية، وتشديد التحتية، آخره حاء مهملة، هو يزيد بن حميد، الضبعي، البصري، (عن أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك)، هو الأنصاري أنَّه (قال: قدِم) بكسر الدال المهملة (النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم المدينة)، قال الحاكم: (تواترت الأخبار بوروده عليه والسلام قباء يوم الاثنين لثمان خلون من ربيع الأول)، وقال محمد بن موسى الخوارزمي: (وكان ذلك اليوم الخميس الرابع من تيرماه، ومن شهور الروم العاشر


(١) في الأصل: (تمثال)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (فيزداد)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (إله)، وليس بصحيح.
(٤) في الأصل: (مسجد)، وليس بصحيح.
(٥) في الأصل: (مساجد)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>