للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

منها للدعاء بجامع التخشع إلا أنَّ هذا الجواب يستلزم أن يكون استعمال الصلاة في الدعاء بعد استعمالها في فعل الهيئات المعلومة، وليس كذلك؛ لأنَّ الصلاة بمعنى: الدعاء شائعة في إشعار الجاهلية، ولم يرو عنهم إطلاقها على فعل تلك الهيئات بل ما كانوا يعرفون ذلك قط، فكيف يتجوزونها عنه؟ والذي يظهر أن ما اختاره الجمهور أوجه وأولى، أما أولًا؛ فلأن الاشتقاق مما ليس بحدث؛ كالصلاة قليل نادر، وأما ثانيًا؛ فلأن أخذ الحركة من (صلى) المشتق من (الصلا) لا دليل عليه، وأما ثالثًا؛ فلأن ذكر الجزء وإرادة الكل إنَّما يصح إذا كان الجزء مقصودًا من الكل، وهنا ليس كذلك، بخلاف ما اختاره الجمهور؛ فليحفظ.

واعلم أن ابن حجر ذكر وجه المناسبة بين أبواب (كتاب الصلاة)، وهي تزيد على عشرين نوعًا، فذكرها مجملة في هذا الموضع، ثم قال: (هذا آخر ما ظهر من مناسبة ترتيب كتاب الصلاة من هذا «الجامع الصحيح»، ولم يتعرض أحد من الشراح لذلك) انتهى.

ورده إمام الشَّارحين فقال: (نحن نذكر وجه المناسبة بين كل بابين من هذه الأبواب بما يفوق ذلك على ما ذكره، يظهر لك ذلك عند المقابلة، وذكرها في مواضعها أنسب، وأوقع في الذهن، وأقرب إلى القول، وبالله التوفيق) انتهى.

قلت: وكلامه في غاية من التحقيق، فإن ذكر المناسبة بين كل بابين من الأبواب لا ريب أنه أنسب وأوقع في النفس، بخلاف ما زعمه ابن حجر؛ فإن فيه تشتيت الأذهان، وطلب النفس إلى سماع وجه المناسبة في كل باب، وفيه خبط وتخليط، وما ذاك إلا من عدم الذكاء والفهم، وهذا دأب الشَّارح المجهول الذي جمع منه كتابه الذي سماه «فتح الباري»، فإنه قد نحا نحوه في ذلك، فالشرح في الحقيقة مجموع من هذا الشَّارح المجهول، فهو نقله ونسبه لنفسه، وجرى على ما ذكره، ولا ريب أن ذلك مخل في الصناعة، وممل لأهل العلم لا سيما قليل البضاعة، وقد ذكر بعض الأفاضل بيان وجه التطويل الممل، والاختصار المخل الواقع لابن حجر في «الفتح» في كتاب سماه «كشف الحجاب عن العوام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، وجمع بعض الفضلاء كتابًا آخر سماه «منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل المخل»، فمن أراد الاضطلاع على ذلك؛ فعليه بهما، فإنه لم يسبق إليهما أحد مما جمع فيهما من التحقيقات الفائقة، والتدقيقات الرائقة، وفوق كل ذي علم عليم.

(١) [باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين (كيف فرضت الصلاة)؛ بالإفراد، وفي رواية الكشميهني والمستملي: (كيف فرضت الصلوات)؛ بالجمع (في الإسراء؟)؛ أي: في بيان كيفية فرضها في ليلة الإسراء؛ بكسر الهمزة، يقال: سرى وأسرى؛ لغتان، وقال الجوهري: (سريت وأسريت بمعنى: إذا سرت ليلًا)، وفي «المحكم» : (والسري: يذكر ويؤنث، ولم يعرف اللحياني إلا التأنيث)، وفي «الجامع» : (سرى يسري سريًا؛ إذا سار ليلًا، وكل سائر ليلًا؛ فهو سائر) انتهى.

والفعل على اللغتين لازم، وعُدِّي في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: ١]؛ بالباء الموحدة في {بِعَبْدِهِ}؛ فافهم.

واختلفوا في المعراج والإسراء: هل كانا في ليلة واحدة أو في ليلتين؟ وهل كانا جميعًا في اليقظة أو في المنام، أو أحدهما في اليقظة والآخر في المنام؟

فذهب جماعة: إلى أنه عليه السَّلام ما أسري إلا بروحه، وهو قول معاوية، وحذيفة رضي الله عنهما، وحكي هذا القول عن عائشة رضي الله عنها؛ لأنَّها قالت: ما فقدت جسد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وإنما أسري بروحه، وعليه؛ فكان ذلك رؤيا.

وذهب جماعة: إلى أنَّ الإسراء وقع في اليقظة، والمعراج في النوم.

وذهب جماعة: إلى أنَّ الإسراء وقع مرتين؛ مرة بروحه منامًا، ومرة بروحه وجسده يقظةً.

وذهب جماعة: إلى تعدد الإسراء في اليقظة، حتى قالوا: إنه أربع إسراءات، ووفق أبو أسامة في روايات حديث الإسراء بالجمع بالتعدد، فجعل ثلاث إسراءات؛ مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط على البراق، ومرة من مكة إلى السموات على البراق أيضًا، ومرة من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات.

قلت: والظاهر أنَّ القصة واحدة؛ لأنَّ تعدد الروايات في الإسراء واختلاف ما يذكر فيها لا يدل على التعدد؛ لأنَّ بعض الرواة يذكر شيئًا لم يذكره الآخر، وبعضهم يسقط شيئًا ذكره الآخر، فإن بعض الرواة قد يحدث بعض الخبر؛ لعلمه به ونسيانه البعض الآخر، أو يذكر ما هو الأهم عنده، أو يبسط تارة فيسوق الحديث كله، وتارة يحدث المخاطب بما هو الأنفع له؛ فليحفظ.

والذي ذهب إليه الجمهور من المحققين من أهل السلف والخلف: هو أنه تعالى أسرى بروح النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم وجسده إما من مكة إلى بيت المقدس؛ فبنص القرآن حيث قال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًامِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء: ١]، وأما العروج به عليه السَّلام في تلك الليلة إلى حيث شاء الله تعالى؛ فكذلك قال تعالى: {مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى*لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى} [النجم: ١٧ - ١٨]، وقال: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء: ١]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِندَ سِدْرَةِ المُنتَهَى} [النجم: ١٣ - ١٤].

قال إمام الشَّارحين: (وكان في السنة الثانية عشرة من النبوة، وفي رواية البيهقي من طريق موسى بن عقبة، عن الزهري: أنه أسري به قبل خروجه إلى المدينة بسنة، وبه قال قتادة، وقيل: كان قبل مهاجره بستة عشر شهرًا، وهو قول السدي، وعلى قوله يكون الإسراء في شهر ذي القعدة، وعلى قول الزهري يكون في ربيع الأول، وقيل: كان الإسراء ليلة السابع والعشرين من رجب، وقد اختاره الحافظ عبد الغني بن سرور المقدسي في «سيرته».

ومنهم من يزعم أنه كان في أول ليلة جمعة من رجب، وهي ليلة الرغائب التي أحدثت فيها الصلاة المشهورة، ولا أصل لها، ثم قيل: كان قبل موت أبي طالب، وذكر ابن الجوزي: أنه كان بعد موته في سنة اثنتي عشرة للنبوة، وقيل: كان ليلة السبت لسبع عشرة خلت من رمضان في السنة الثالثة عشرة للنبوة، وقيل: كان في ربيع الأول، وقيل: كان في رجب) انتهى.

قلت: وقد استحال قريش الإسراء وتعجبوا منه؛ بناء على أن ارتفاع

<<  <   >  >>