للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

تعالى مجازٌ؛ لاستحالته في حقِّه تعالى، فالمراد لازِمُه، وهو إرادة إيصال الخير، ويسمَّى هذا المجاز: مشاكلةٌ ومقابلةٌ.

(وأمَّا الآخَر)؛ بفتح الخاء، (فاستحى)؛ أي ترك المزاحمة؛ حياءً من رسول الله عليه السلام ومن أصحابه، وعند الحاكم: ومضى الثاني قليلًا ثم جاء فجلس، قال في «عمدة القاري» : معناه: استحى مِنَ الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث، اهـ؛ فليحفظ.

(فاستحيى اللهُ منه)؛ أي: جازاه بمثل فعله؛ بأنْ رحمه ولم يعاقبه، وهذا أيضًا من قبيل المشاكلة؛ لأنَّ الحياء تغيُّرٌ وانكسارٌ يَعتري الإنسان مِن خوفِ ما يُذَمُّ به، وهذا محالٌ على الخالق تبارك وتعالى، فيكون مَجازًا عن ترك العقاب للاستحياء، فيكون هذا من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم، كما في «عمدة القاري».

(وأمَّا الآخَر)؛ أي: الثالث، (فأعرض) عن مجلس النبي الأعظم عليه السلام ولم يلتفت إليه؛ بل ولَّى مُدبرًا، (فأعرض الله عنه)؛ أي: جازاه؛ بأنْ سخط عليه، وهذا أيضًا من باب المشاكلة؛ لأنَّ الإعراض: هو التفات إلى جهة أخرى، وذاك لا يليق في حقِّ الله تعالى، فيكون مَجازًا عن السُّخط والغضب، المجاز عن إرادة الانتقام.

والمراد في مثل هذه الإطلاقات: غاياتها ولوازمها، والعلاقة بين الحقيقي والمجازي اللزوم، والقرينة الصارفة هو العقل، وفي رواية: («وأمَّا الآخَر؛ فاستغنى فاستغنى الله عنه»)، ويَحتمل أنَّه كان منافقًا، فاطلع النبي الأعظم عليه السلام عليه وعلى حاله وأمْره، وتمامُه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.

وفي الحديث الثناءُ على مَن زاحم في طلب الخير، وجوازُ التخطِّي لسَدِّ الخلل ما لم يؤذ (١)، وأنَّ مَن سبق إلى موضع من المسجد فهو أحقُّ به، وأنَّ من الأدب أن يجلس حيث ينتهي به المجلس، وأنَّ الإنسان إذا فعل قبيحًا؛ جاز أن يُنسب إليه، وأنَّ مَن أعرض عن مجالسة العلماء؛ فإنَّ اللهَ يُعرض عنه، وفيه استحبابُ التحلُّقِ للعلم والذِّكر وغير ذلك، والله أعلم.

(٩) [باب قول النبي: رب مبلغ أوعى من سامع]

هذا (باب قول النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم: رُبَّ مُبَلَّغٍ) -بفتح اللام فقط- إليه عني يكونُ (أوعى)؛ أي: أفهم لما أقوله، (مِن سامعٍ) منِّي، و (قَوْلِ) مجرورٌ بالإضافة، و (رُبَّ) حرفُ جرٍّ يُفيد التقليل، لكنَّه كثُر استعماله في التكثير؛ بحيث غلب حتى صارت كأنَّها حقيقة فيه.

وقال الكوفيُّون: إنَّها اسم، وتنفرد (رُبَّ) عن أحرف الجرِّ بوجوب تصديرها وتنكير مجرورها ونعته إن كان ظاهرًا، وغلبةِ حذف معدَّاها ومضيه، وبزيادتها في الإعراب دون المعنى، ومحلُّ مجرورها رفعٌ على الابتداء، نحو قوله هنا: (رُبَّ مُبَلَّغٍ)، فإنَّه وإنْ كان مجرورًا بالإضافة لكنَّه مرفوعُ المحل على الابتداء، وخبره (يكون) المقدَّر، و (أوعى) صفة للمجرور، وأمَّا نحو: رُبَّ رجلٍ لقيت؛ فنصب على المفعولية، وفي نحو: رُبَّ رجل صالح لقيت؛ رفع أو نصب، وعلى مذهب الكوفيِّين: أنَّ (رُبَّ مُبَلَّغٍ)؛ كلامٌ إضافي مبتدأٌ، وقوله: (أوعى مِنْ سامعٍ) خبرُه.

وفي (رُبَّ) ستةَ عشَرَ لغةً: ضمُّ الراء وفتحُها وكلاهما مع التشديد والتخفيف، وهذه الأربعة مع تاء التأنيث الساكنة، أو محرَّكة، ومع التجرُّد منها، فهذه اثنتي عشرة، والضمُّ والفتحُ مع إسكان الباء، وضمُّ الحرفين مع التشديد ومع التخفيف، أفاده في «عمدة القاري».

[حديث: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام]

٦٧ - وبه قال: (حدثنا مُسَدَّد) هو ابن مُسرهِد، (قال: حدثنا بِشْر)؛ بكسر الموحدة وسكون المعجمة، ابن الفضل بن لاحق الرقاشي البصري، أبو إسماعيل الذي كان يصلي كل يوم أربعمئة ركعة، ويصوم يومًا ويفطر يومًا، المتوفى سنة تسع وثمانين ومئة.

(قال: حدثنا ابن عون)؛ بالنون: عبد الله بن أرطبان البصري، مولى عبد الله بن مغفل الصحابي الذي قال في حقِّه خارجة: (صحبت ابن عون أربعًا وعشرين سنة، فما أعلم أنَّ الملائكة كتبت عليه خطيئة)، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، وقيل: سنة خمسين ومئة.

(عن ابن سيرين)؛ هو محمد، (عن عبد الرحمن بن أبي بَكْرَة) نُفَيع؛ بضم النون وفتح الفاء، ابن الحارث، أبو عمرو الثقفي البصري، أول مولود ولد في الإسلام بالبصرة، المتوفى سنة ست وتسعين، (عن أبيه) أبي بَكْرة نُفَيع بن الحارث، (ذَكَرَ)؛ أي: أبو بَكْرة؛ أي: أنَّه كان يُحدِّثهم فذكر، (النبيَّ) الأعظم، بالنصب مفعول (ذكر)، (صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية: (أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم)، وفي أخرى: (ذُكِر- بضمِّ أوله وكسر ثانيه- النبيُّ صلى الله عليه وسلم) بالرفع نائبٌ عن الفاعل؛ أي: قال أبو بَكْرة حال كونه قد ذكر النبي عليه السلام، وفي «النسائي» قال: (وذكر) بالواو، إمَّا للحال أو للعطف، على أن يكون المعطوف عليه محذوفًا، أفاده في «عمدة القاري».

(قعد) عليه السلام (على بعيره) بمِنى يوم النَّحْر في حجة الوداع، وإنَّما قعد عليه وورد النهي عن اتخاذ ظهورها منابر؛ لأجل الحاجة إلى إسماع الناس، والنهي محمول على ما إذا لم تدعُ الحاجة إليه، على أنَّه عليه السلام هو المشرِّع، فلا يبعد أن يكون فعله ناسخًا للنهي؛ فليحفظ.

(وأمسك إنسان بخطامه)؛ بكسر الخاء، (أو بزمامه) وهما بمعنى واحد، وهو الخيط الذي يُشد فيه البُرَة؛ بضم الموحدة وفتح الراء؛ حلقة من صفر تُجعل في لحم أنف البعير، وقال الأصمعي: يُجعل في أحد جانبي المنخرين، والشكُّ من الراوي، قيل: الممسك هنا أبو بَكْرة؛ لرواية الإسماعيلي عنه: (وأمسكت أنا بخطامها (٢) أو زمامها)، وقيل: بلال؛ لرواية النسائي عن أم الحصين قالت: (حججتُ فرأيتُ بلالًا يقود بخطام راحلة النبي صلى الله عليه وسلم)، وقيل: عمرو بن خارجة؛ لما في السنن عنه قال: (كنتُ آخذُ بزمام ناقته عليه السلام).

قلت: ورجَّح الشيخ الإمام بدر الدين العيني أنَّ الممسك هو عمرو بن خارجة؛ لأنَّه أخبر عن نفسه، قلت: ويَحتمل تعدُّد الإمساك بأنْ مسك هذا حصة، وهذا أخرى، وهذا أخرى، وكلُّ مَن رأى الممسك أخبر عنه، وإنَّما أمسك؛ لصون البعير عن الاضطراب والتشويش على راكبه عليه السلام.

(ثم قال) عليه السلام، وفي رواية: (فقال)، (أيُّ يوم هذا؟) برفع (أيُّ)، والجملة وقعت مقول القول، (فسكتنا) عطف على (قال)، (حتى) بمعنى (إلى)، (ظنَّنا أنَّه سيسميه سوى اسمه)؛ بفتح همزة (أنَّه) في محلِّ نصب على المفعوليَّة.

(قال: أليس) فالهمزة ليست للاستفهام الحقيقي؛ بل لنفي ما بعدها، وما بعدها منفي، فيكون إثباتًا؛ لأنَّ نفي النفي إثبات، فيكون المعنى: هو (يوم النحر) كما في قوله: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: ٣٦]؛ أي: الله كاف عبده.

(قلنا) وفي رواية: (فقلنا)، (بلى) حرف يختصُّ بالنفي ويفيد إبطالَه، وهو هنا مقول القول أُقيم مُقام الجملة التي هي مقول القول، (قال) عليه السلام (فأيُّ شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه)؛ بفتح الهمزة، (سيسمِّيه) أتى بالسين؛ للتوكيد، (بغير اسمه) المعلوم، (فقال) عليه السلام، وفي رواية: (قال) : (أليس بذي الحجة؟)؛ بكسر الحاء المهملة وفتحها والكسر أفصح، وكذا ذو القعدة؛ بكسر القاف.

(قلنا: بلى)، وسقط في رواية السؤال عن الشهر والجواب الذي قبله، فقال: (أيُّ يوم هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه سيسميه سوى اسمه، قال: أليس بذي الحجة؟)، فهو من إطلاق الكلِّ على البعض، وفي رواية: (فأيُّ بلد هذا؟ فسكتنا حتى ظنَّنا أنَّه سيسميه بغير اسمه، قال: أليس بمكَّة؟)، وفي رواية بالسؤال عن الشهر والجواب الذي قبله مع السؤال عن البلد، وهذه الثلاثة ثابتةٌ عند المؤلف في (الأضاحي) و (الحج)، كما بسطه هنا في «عمدة القاري».

(قال) عليه السلام (فإنَّ دماءكم)؛ أي: سفك دمائكم بغير حق، (وأموالكم)؛ أي: أخذها بغير حق، (وأعراضَكم) جمع عِرْض؛ بكسر العين: موضعُ المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه، أو أصله، أو فرعه؛ أي: ثلب أعراضكم بغير حق (بينكم حرام) خبر (إنَّ) مرفوع، (كحرمة يومكم هذا)؛ هو يوم النحر، (في شهركم هذا)؛ هو ذو الحجة، (في بلدكم هذا)؛ هي مكة المكرمة، وإنَّما شبه الثلاثة بالثلاثة؛ لاشتهار الحرمة فيها عندهم، بخلاف الأموال، والدماء، والأعراض؛ فإنَّهم في الجاهلية كانوا يستبيحونها، وما قاله ابن حجر ردَّه في «عمدة القاري».

(ليبلغِ)؛ بكسر الغين المعجمة؛ لأنَّه أمرٌ، ولكنَّه لما وصل بما بعده حرك بالكسر؛ لأنَّه الأصل، (الشاهد)؛ أي: الحاضر في المجلس، (الغائب) عنه، والمراد: إمَّا تبليغ القول المذكور أو تبليغ جميع الأحكام.

(فإن الشاهد عسى أن يبلِّغَ) في محلِّ رفع خبر (إنَّ)، (مَنْ)؛ أي: الذي، (هو أوعى)؛ أي: أفهم، (له)؛ أي: للحديث، (منه) صلة لأفعل التفضيل، أعني قوله: (أوعى)، وإنَّما فصل بينهما بقوله: (له)؛ لأنَّ الظروف يُتوسَّع فيها ما لا يُتوسَّع في غيرها.

ويؤخذ من الحديث وجوبُ تبليغ العلم على العالم، وأنَّ حامل الحديث يجوز الأخذ عنه وإن كان جاهلًا بمعناه، وجوازُ القعود على ظهر الدواب، كما مرَّ، وأنَّ الخطبة تكون على موضع عالٍ، ومساواةُ المال والدموالعرض في الحرمة، وفيه الحث على التأدُّب مع الكبير؛ حيث يسألهم فيقولون: اللهُ ورسولُه أعلم، رضي الله عنهم أجمعين.


(١) في الأصل: (يؤذي).
(٢) في الأصل: (بخضامها).

<<  <   >  >>