مالك كمذهب الإمام الأعظم رضي الله عنه، ومذهب أحمد: أنه يحرم ذبيحة متروك التسمية عمدًا أو نسيانًا، وإليه ذهب داود، وفي المشهور عن أحمد كمذهبنا، وسيأتي تمامه في محله إن شاء الله تعالى.
قال إمام الشارحين في «عمدة القاري» : واعلم أن البخاري ذكر في هذا الباب ستة من الآثار إلى هنا، واستدل بها على جواز قراءة الجنب القرآن، وفي كل ذلك مناقشة، ورد عليه الجمهور بأحاديث وَرَدَتْ بمنع الجنب عن قراءة القرآن؛ منها: حديث علي رضي الله عنه، أخرجه الأربعة؛ ولفظ أبي داود: حدثنا جعفر بن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سَلَمَة قال: دخلت على علي رضي الله عنه أنا ورجلان؛ رجل منا ورجل من بني أسد... إلى أن قال: فدخل المخرج، ثم خرج فدعا بماء، فأخذ منه حفنة، فتمسح بها، ثم جعل يقرأ القرآن فأنكروا ذلك فقال: (إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كان يجيء من الخلاء فيقرئنا القرآن، ويأكل معنا اللحم، ولم يكن يحجزه عن القرآن شيء ليس الجنابة)، وقوله: (لا يحجزه)؛ بالزاي المعجمة؛ أي: لا يمنعه، ويروى بالراء المهملة أيضًا، ويروى: (لا يحجبه) بمعناه أيضًا.
فإن قلت: ذكر البزار أنه لا يروى عن علي إلا من حديث عمرو بن مرة عن عبد الله بن سَلَمَة، وحكى البخاري عن عمرو بن مرة كان عبد الله بن سَلَمَة يحدثنا فنعرف وننكر، وكان قد كبر، لا يتابع في حديثه، وذكر شعبة مثله كما نقله البيهقي، وذكر الخطابي أن أحمد كان يوهن حديث علي هذا، ويضعف أمر عبد الله بن سَلَمَة، وذكره ابن الجوزي في «الضعفاء والمتروكين»؟
قلت: الترمذي لما أخرجه؛ قال: (حديث حسن صحيح)، وصححه ابن حبان أيضًا، وقال الحاكم في عبد الله بن سَلَمَة: (إنه غير مطعون فيه)، وقال العجلي: (هو تابعي ثقة)، وقال ابن عدي: (أرجو أنه لا بأس به)، ومن الأحاديث حديث ابن عمر أخرجه الترمذي وابن ماجه عن إسماعيل بن عباس، عن موسى بن عُقْبَة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يقرأ الحائض ولا الجنب شيئًا من القرآن».
ومنها حديث جابر رواه الدارقطني في «سننه» من حديث محمَّد بن الفضل، عن أبيه، عن طاووس، عن جابر مرفوعًا نحوه، ورواه ابن عدي في «الكامل» وهما ضعيفان، فإنَّ الأول ضعف بإسماعيل بن عباس، قال أحمد: (روايته عن أهل الحجاز ضعيفة)، والثاني أعله ابن عدي بمحمَّد بن الفضل، وأغلظ في تضعيفه على البخاري، والنسائي، وأحمد، وابن معين، قال إمام الشارحين: (وربما يعضدان بحديث علي المذكور، ولم يصح عند البخاري في هذا الباب حديث؛ فلذلك ذهب إلى جواز قراءة الجنب والحائض أيضًا، واستدل على ذلك بحديث عائشة الذي رواه مسلم، الذي ذُكِر عن قريب، فإنه قد صح عنده وعند غيره).
وقال الطبري: (الصواب أن ما روي عنه عليه السلام من ذكر الله على كل أحيانه، وأنه كان يقرأ ما لم يكن جنبًا؛ أن قراءته طاهرًا اختيارٌ منه لأفضل الحالتين والحالة الأخرى أراد تعليم الأمة أن ذلك جائز لهم غير محظور عليهم ذكر الله وقراءة القرآن) انتهى.
قلت: فيه نظر، بل الصواب أنه عليه السلام كان يقرأ طاهرًا تعظيمًا للقرآن، وكان يقرأ جنبًا بقصد الذكر لا التلاوة، على أنه ذكر الله على غير طهارة خلاف الأدب؛ لأنَّ حديث علي قد صححه الترمذي، وابن حبان، وغيرهما، والقول بضعفه شاذ، لا سيما قد اعتضد بالطرق، وبها يتقوى إلى درجة الصحيح، وإذا وجد الحاظر والمبيح؛ يقدم الحاظر عند المحققين، وشهادة الصحة إثبات، وشهادة الضعف نفي، والإثبات مقدم على النفي عند المدققين.
ولا دليل للمؤلف في حديث عائشة على جواز قراءة القرآن جنبًا؛ لأنَّ غاية [ما] في حديثها: أنه عليه السلام أمرها أن تنسك المناسك كلها غير ألَّا تطوف ولا تصلي حتى تطهر، ففيه دليل على جواز ذكر الله تعالى حالة الحيض، وليس فيه أنها تقرأ القرآن، فقياس الذكر على قراءة القرآن قياس مع الفارق؛ وإن كان القرآن يسمى ذكرًا.
وفيه دليل على منع قراءة القرآن حالة الحيض؛ لأنَّ قوله: (ولا تصلي ولا تطوفي) يلزم منه المنع عنها، فيدل على عدم الجواز، وقد اتفق الجمهور على المنع ولذلك مزيد كلام بينته في «منهل الطلاب»، والله تعالى أعلم.
[حديث: خرجنا مع النبي لا نذكر إلا الحج فلما جئنا]
٣٠٥ - وبالسَّند إليه قال: (حدثنا أبو نُعيم)؛ بضمِّ النون، هو الفضل بن دكين -بالدال المهملة- (قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سَلَمَة) بفتحات، (عن عبد الرحمن بن القاسم)؛ هو ابن محمَّد، (عن) أبيه (القاسم بن محمَّد)؛ هو ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، (عن عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، (قالت: خرجنا مع النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) حال كوننا (لا نَذْكر)؛ بفتح النون، من الذُّكر -بضمِّ الذال المعجمة-، وفي الرواية السابقة: (لا نرى)؛ بضمِّ النون وفتحها؛ ومعناه: لا نظن (إلا الحج)؛ أي: إلا قصد الحج؛ لأنَّهم كانوا يظنون امتناع العمرة في أشهر الحج، فأخبرت عن اعتقادها عن الغالب من حال الناس، أو من حال الشارع؛ أمَّا هي فقد قالت: إنَّها لم تحرم إلا للعمرة، (فلما جئنا) وفي الرواية السابقة: (فلما كنت) (سَرِف)، وفي الرواية السابقة: (بسرف)؛ بزيادة الموحدة أوله، وهو بفتح السين المهملة، وكسر الراء، آخره فاء، اسم موضع قريب من مكة، بينهما نحوًا من عشر أميال، أو تسعة، أو سبعة، أو ستة، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث، وقد يصرف نظرًا لإرادة المكان؛ (طمَثت)؛ بفتح الميم، وكسرها؛ أي: حِضْتُ، وهناك صرحت بقولها: (حضت)، (فدخل عليَّ)؛ بتشديد المثناة التحتية (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ أي: إلى مكاني الذي أنا فيه، فرآني (وأنا أبكي) : جملة اسمية وقعت حالًا بالواو، (فقال: ما) استفهامية؛ معناه: أي شيء (يبكِيكِ؟)؛ بكسر الكافين؛ أي: أي شيء أصابك، ومن شدته بكيت؟ (فقلت)؛ بتاء المتكلم؛ أي: له عليه السلام: (لودِدت)؛ بكسر الدال المهملة الأولى، وهو جواب قسم محذوف، والقسم التالي وهو قولها: (والله)؛ تأكيد له (أَني)؛ بفتح الهمزة (لم أحج العام)؛ أي: لم أقصد الحج في هذه السنة؛ لأنَّ قولها ذلك كان قبل شيء من الحج، (قال) عليه السلام لها: (لعلكِ)؛ بكسر الكاف (نَفست؟)؛ بفتح النون لا غير؛ أي: حضت، وجوز بعضهم الضم على قلة كما سبق، (قلت: نعم)؛ أي: نفستُ، (قال) عليه السلام: (فإن ذلكِ)؛ بكسر الكاف، وباللام، وفي رواية: (فإن ذاك)، وفي السابقة: (إن هذا) والمراد: الحيض (شيء) وفي السابقة: (أمرٌ) (كتبه الله على بنات آدم)؛ لأجل امتحانهنَّ به ليظهر صبرهنَّ وعدمه على العبادة فليس هو خاصًّا بك، وقصد عليه السلام تسليتها والتخفيف لهمِّها، (فافعلي) وفي السابقة: (فاقضي)، وهذا خطاب لعائشة، ومعناه: أدِّي (ما)؛ أي: الذي أو الشيء (يفعل)؛ أي: يؤدِّيه (الحاج)؛ أي: من المناسك، وهو اسم فاعل أصله: حاجج، والمراد به الجنس فيشمل الجمع، وتمامه قد مضى، (غيرَ) بالنصب (ألَّا)؛ بالشديد، أصله: أن لا، ويجوز أن تكون (أن) مخفَّفة من المثقلة، وفيه ضمير الشأن، و (لا) زائدة، وقوله: (تطوفي) مجزوم بـ (لا)؛ أي: لا تطوفي ما دمت حائضًا؛ لفقدان صحة الطواف؛ وهو الطهارة، ولهذا قال: (حتى تطهري)؛ أي: بانقطاع الحيض وإن لم تغتسلي، ومثلها النفساء والجنب، فإنَّ الاغتسال ليس بشرط لصحَّة الطواف، لكنه واجب فلو طافت بعد الانقطاع للركن؛ يجب عليها بدنة، ولو حاضت عند طواف الصَّدَر؛ تركته؛ لقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إنه عليه السلام أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض)، متفق عليه، وقال الشافعي: لا بدَّ لصحة الطواف من الانقطاع والغسل؛ لحديث: «الطواف بالبيت صلاة» فيشترط له ما يشترط لها، ورُدَّ بقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: ٢٩]، واشتراط الطهارة بخبر الواحد زيادة على النصِّ، وهو نسخ فلا يثبت فيه، والمراد من التشبيه إنَّما هو في الثواب دون الحكم، ألا ترى أن الانحراف والمشي فيه لا يفسده؟! ولا يلزم موافقة المشبه المشبه به في جميع الوجوه، فإنك إذا قلت: زيد كحمار؛ يعني: في عدم الفهم؛ فلا يلزم أنَّه يمشي على أربع، وسيأتي تمامه في (الحج)، إن شاء الله تعالى.
ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة؛ فإن المرأة إذا حاضت بعد الإحرام تأتي بأفعال الحج كلها غير أنها لا تطوف بالبيت، فإن طافت بعد الانقطاع؛ صح طوافها وعليها بدنة؛ لعدم الاغتسال.
وفي الحديث جواز البكاء والحزن لأجل حصول مانع للعبادة، وفيه أن العبد إذا وقع في مصيبة؛ لا بأس لغيره أن يسلِّيه بمثلها في غيره، ويخفِّفها عنه، كأن يقول له: انظر لفلان، فإنه حصل له كذا وكذا مثلها، والله أعلم.