للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أن الرش على المشكوك فيه لا يفيد شيئًا؛ لأنَّه إن كان طاهرًا؛ فلا حاجة إليه، وإن كان متنجسًا؛ لم يطهر بذلك، فالأحسن ما قاله الخطابي.

ورده في «عمدة القاري» قال: قلت: الذي قاله القرطبي هو الأحسن؛ لأنَّه يلزم التكرار من قول الخطابي، فلا فائدة فيه؛ لأنا قد ذكرنا أن الحت: هو الفرك، والقرض: هو الدلك بأطراف الأصابع مع صبِّ الماء عليه حتى يذهب أثره لما نقلناه عن القاضي عياض، ففهم الغسل من لفظة القرض، فإذا قلنا الرش بمعنى الغسل؛ يلزم التكرار.

وقوله: (إن الرش...) إلخ كلام من غير روية؛ لأنَّ الرش ههنا لإزالة الشك المتردد في الخاطر، كما في الحديث: في رش المتوضئ الماء على سراويله بعد فراغه من الوضوء، وليس معناه على الوجه الذي ذكره؛ فافهم، انتهى.

قلت: وهو في غاية من التحقيق؛ فليحفظ.

والمراد بالوضوء؛ أي: الاستنجاء، أو أنه من العادة أن الإنسان إذا أراد الاستنجاء؛ حل سراويله، وبعده استنجى وتوضأ، ثم يلبسها ويرشها لأجل الوسوسة من الشيطان الرجيم؛ فافهم واحفظ.

وقال ابن بطال: (حديث أسماء أصل عند العلماء في غسل النجاسات من الثياب، وهذا الحديث محمول عندهم على الدم الكثير الفاحش إلا أن الفقهاء اختلفوا في مقدار ما يتجاوز عنه من الدم، فاعتبر الكوفيُّون فيه وفي سائر النجاسات دون الدرهم في الفرق بين قليله وكثيره)، قال في «عمدة القاري» : فلما ذكره صاحب «الأسرار» عن علي وابن مسعود رضي الله عنها أنهما قدرا النجاسة بالدرهم، وكفى بها حجة في الاقتداء، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفي «المحيط» : (أنه قدره بظفره أيضًا، وكان ظفره قريبًا من كفنا)، فدل على أن ما دون الدرهم لا يمنع، وقال في «المحيط» أيضًا: الدرهم الكبير: ما يكون مثل عرض الكف، وفي صلاة الأصل الدرهم الكبير المثقال. يعني: يبلغ مثقالًا، وعند شمس الأئمَّة السرخسي: (يعتبر بدرهم زمانه، وأما الحديث الذي رواه الدارقطني في «سننه» عن روح بن عطيف، عن الزُّهري، عن أبي سَلَمَة، عن أبي هريرة، عن النبيِّ عليه السلام قال: «تعاد من قدر درهم من الدم»، وفي لفظ: «إذا كان في الثوب قدر الدرهم من الدم؛ غسل الثوب وأعيدت الصَّلاة»؛ فاتفق الحفَّاظ على أنه حديث منكر؛ بل قال البخاري: إنه حديث باطل؛ فلهذا لم يحتج به الإمام الأعظم، وأصحابه رضي الله عنهم.

فإن قلت: النص -وهو قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: ٤] - لم يفصل بين القليل والكثير، فلا يعفى عن القليل.

قلت: القليل غير مراد من النص بالإجماع بدليل عفو موضع الاستنجاء، فتعيَّن الكثير، وقد قدر الكثير بالآثار، انتهى.

وقال ابن بطال: (وقال مالك: قليل الدم معفوٌّ عنه، ويغسل من قليل سائر النجاسات، وروى عنه ابن وهب: أن قليل دم الحيض كالكثير؛ لقوله عليه السلام لأسماء: «حتيه، ثم اقرضيه» حيث لم يفرق بين قليله وكثيره، ولا سألها عن مقداره، ولم يجد فيه مقدار الدرهم، ولادونه.

قلت: حديث عائشة: (ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد فيه نحيض، فإن أصابه شيء من دم؛ بلته بريقها، ثم قصعته بريقها)، رواه أبو داود، وأخرجه البخاري أيضًا، ولفظه: (قالت بريقها، فمصعته) يدل على الفرق بين القليل والكثير، انتهى.

وقال البيهقي: (هذا في اليسير الذي يكون معفوًّا عنه، وأما الكثير منه؛ فصحَّ عن عائشة أنها كانت تغسله، فهذا دليل على عدم الفرق بين القليل والكثير من النجاسة، وهو حجة على الشافعي في قوله: إنَّ يسير الدم يُغْسَل كسائر النجاسات إلا دم البراغيث، فإنه لا يمكن التحرُّز عنه) انتهى.

ورده ابن بطال: بأنه قد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسًا بالقطرة والقطرتين من الدم في الصَّلاة، وعصر ابنُ عمر رضي الله عنهما بثرة فخرج منها دم، فمسحه بيده وصلى، فالشافعية ليسوا بأكثر احتياطًا من أبي هريرة، وابن عمر، ولا أكثر دراية منهما حتى خالفوهما؛ حيث لم يفرقوا بين القليل والكثير، على أن قليل الدم موضع ضرورة؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو في غالب ضرورة من بثرة، أو دمل، أو برغوث فعفي عنه، ولهذا حرَّم الله المسفوح منه، فدل على أن غيره ليس بمحرَّم) انتهى.

وفي الحديث: دلالة على أن الدم نجس بالإجماع، وفيه دلالة على أن العدد ليس بشرط في إزالة النجاسة؛ بل المراد الاتِّقاء، وفيه: دلالة على أنها إذا لم تر في ثوبها شيئًا من الدم؛ ترش عليه وتصلي فيه، انتهى «عمدة القاري»؛ أي: لأجل الوسوسة من الشيطان.

[حديث: جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى النبي]

٢٢٨ - وبه قال: (حدثنا محمَّد) ٩ غير منسوب عند الأكثرين، وللأصيلي: (محمَّد بن سلَام)، ولأبي ذر: (محمَّد) هو ابن سلام، ولغيرهما: (محمَّد)؛ يعني: ابن سلَام؛ بتخفيف اللام، البيكندي (قال: حدثنا) ولابن عساكر: (أخبرنا) (أبو معاوية) هو محمَّد بن خازم؛ بالمعجمتين، الضرير، (قال: حدثنا هشام)؛ أي: ابن عروة، كما عند الأصيلي، (عن أبيه) أي: عروة بن الزبير، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها (قالت) أي: عائشة: (جاءت فاطمة بنت) وفي رواية: (ابنة) (أبي حبيش)؛ بضمِّ الحاء المهملة، وفتح الموحدة، وسكون التحتية، آخره معجمة، القرشية الأسدية، واسم أبي حبيش قَيْس بن عبد المطلب بن أسد، هذا هو الصواب، وقد ذكره الذهبي في «التجريد»، كذا في «عمدة القاري»، فما زعمه ابن حجر من أنه قَيْس بن المطلب، وتبعه العجلوني خطأ؛ فافهم، ثم قال في «عمدة القاري» : (وهي غير فاطمة بنت قَيْس التي طُلِّقت ثلاثًا) انتهى، (إلى النبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو متعلق بقوله: (جاءت) (فقالت) أي: فاطمة: (يا رسول الله؛ إني امرأة) وكلمة (إنَّ) لا تستعمل إلا عند إنكار المخاطب لقوله (١) أو التردد فيه، وما كان لرسول الله عليه السلام إنكار لاستحاضتها ولا تردد فيها، فوجه استعمالها ههنا يكون لتحقيق نفس القضية؛ إذ كانت بعيدة عن الوقوع نادرة الوجود؛ فلذلك أكدت قولها بكلمة (إن)، كذا في «عمدة القاري»، (أُسْتَحاض)؛ بضمِّ الهمزة، وسكون السين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، قال الجوهري: (استحيضت المرأة؛ أي: استمر بها الدم بعد أيامها، فهي مستحاضة، وفي الشرع الحيض: الدم الخارج من الرحم، وهو موضع الولد لا يعقب ولادة مقدار وقت معلوم)، وقال الإمام الكرخي: (الحيض دم تصير به المرأة بالغة بابتداء خروجه، والاستحاضة: اسم للدم الذي تراه في أيام أقل الحيض، أو في الزائد على أكثره، وكذا ما تراه الحامل، وما تراه المعتادة فوق عادتها وتجاوز العشرة، وكذا ما تراه قبل أن تبلغ تسع سنين، وكذا ما تراه النفساء زائدًا على عادتها وتجاوز الأربعين، وكذا ما زاد على الأربعين في النفاس، وكذا ما تراه الآيسة وهي أن تبلغ من السن ما لا تحيض مثلها فيه، أو هو مقدر بخمس وخمسين، فإن ذلك كله دم استحاضة لا يمنع صلاةً، ولا صومًا، ولا وطئًا، وسيأتي تمامه.

ووجه بناء الفعل للفاعل في الحيض، وللمفعول في الاستحاضة، فيقال: استحيضت أنَّه لما كان الأول معتادًا معروفًا؛ نسب إليها، والثاني لما كان نادرًا غير معروف الوقت وكان منسوبًا إلى الشيطان كما جاء أنها ركضة من الشيطان؛ بُنِيَ لما لم يسم فاعله، والسين فيه يجوز أن تكون للتحوُّل كما في استحجر الطين، وهنا أيضًا تحول دم الحيض إلى غير دمه؛ وهو دم الاستحاضة؛ فافهم، كذا قرره في «عمدة القاري»، والله أعلم.

(فلا أطهُر)؛ بضمِّ الهاء؛ أي: لا ينقطع دمي على العادة، بل يستمر، (أفأدع)؛ أي: أفأترك (الصَّلاة؟) فرضها ونفلها، وقد وجد في هذا التركيب الهمزة وهي تقتضي عدم المسبوقية بالغير، والفاء وهي تقتضي المسبوقية به، فكيف يجتمعان؟

وأجاب الكرماني: (بأن الهمزة مقحمة، وتوسطها جائز بين المعطوفين إذا كان عطف الجملة على الجملة؛ لعدم انسحاب ذكر الأول


(١) في الأصل: (لدخوله)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>