للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كبار أصحاب رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كانوا يدخلون المسجد ثم يخرجون ولا يصلون)، وأوجب أهل الظاهر فرضًا على كلِّ مسلم داخل في وقت تجوز فيه الصلاة الركعتين، وزعم ابن حجر: واجب في كل وقت؛ لأنَّ فعل الخير لا يُمنع منه إلا بدليل لا معارض له، انتهى.

قلت: وهو كلام فاسد الاعتبار؛ فإن الصلاة في الأوقات المنهي عنها ليس هو فعل خير، ألا ترى إلى قوله عليه السَّلام: «إنَّ الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت؛ فارقها، ثم إذا استوت؛ قارنها، فإذا زالت؛ فارقها، فإذا دَنَت للغروب؛ قارنها، فإذا غربت؛ فارقها»، ونهى عن الصلاة في تلك الساعات، رواه مالك في «الموطأ»، والنسائي، وغيرهما، ولا ريب أنَّ هذا دليل لا معارض له؛ لأنَّه قطعي، كما علم فيالأصول، وقال الحافظ الطحاوي: ويدلُّ لعدم الوجوب: قوله عليه السَّلام للذي رآه يتخطى: «اجلس، فقد آذيت»، ولم يأمره بصلاة، انتهى.

واعترضه ابن حجر بأنَّ الأمر بالجلوس حتى لا يتخطى؛ فلا ينافي أنَّه يصلي في مجلسه، انتهى.

قلت: واعتراضه مردود عليه؛ فقد حفظ شيئًا وغاب عنه أشياء؛ فإنَّ أمره عليه السَّلام بالجلوس أعم من ألَّا يتخطى وألَّا يصلي في مجلسه؛ لأنَّه لو كان مراده الصلاة؛ لقال له عليه السَّلام: صلِّ مكانك، على أنَّ فيه أنَّه لم يأمره بالصلاة، فهو دليل واضح لما قلناه، فإنَّه لو كان الوقت وقت صلاة؛ لأمره بالصلاة، فقُدِّم ذلك دليل على أنَّه ليس بواجب عليه؛ فافهم.

وزعم ابن حجر معترضًا على ابن بطال بنقله الوجوب عن أهل الظاهر؛ فقال: الذي صرَّح به ابن حزم عدمه، انتهى.

قلت: ابن حزم-وإن كان لا يقول بالوجوب- لا ينافي أنَّه ليس واجبًا عند أهل الظاهر، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمُثبِت مُقدَّمٌ على النافي؛ فافهم.

واعلم أن حديث الباب قد ورد على سبب؛ وهو أن أبا قتادة دخل المسجد، فوجد النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم جالسًا بين أصحابه، فجلس معهم، فقال له: «ما منعك أن تركع؟» قال: رأيتك جالسًا والناس جلوس، قال: «فإذا دخل أحدكم المسجد؛ فلا يجلس حتى يركع ركعتين»، أخرجه مسلم وغيره، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» من وجه آخر حسن عن أبي قتادة: «أعطوا المساجد حقَّها»، قيل: يا رسول الله؛ وما حقها؟ قال: «ركعتين قبل أن تجلس»، وزاد أبو أحمد الجرجاني: (وإذا دخل بيته؛ فلا يجلس حتى يركع ركعتين، فإن الله جاعل له من ركعتيه في بيته خيرًا)، لكن قال: (وإسناده منكر)، ونقل أبو محمد الإشبيلي عن البخاري: أن هذه الزيادة لا أصل لها، وأنكر ذلك ابن قطان، وزعم أنَّه لا يصحُّ نسبته إليه، وروى ابن حبان في «صحيحه» حديث التحية عن أبي قتادة يرفعه بزيادة: (قبل أن يجلس أو يستخير)، قال العجلوني: (ولينظر معنى: «أو يستخير») انتهى.

قلت: معناه: قبل أن يستخير موضعًا لصلاته وجلوسه؛ لأنَّ الداخل في المسجد ينظر موضعًا يكون نظيفًا خاليًا عن الزحمة وغيرها، فأمره عليه السَّلام قبل أن يجلس أو يستخير موضعًا لصلاته المفروضة ولجلوسه: أن يركع ركعتين، هذا ما ظهر لي، والعلم عند الله.

وقال السفاقسي: (وفقهاء الأمصار حملوا الأمر في الحديث على الندب؛ لقوله عليه السَّلام للذي سأله عن الصلوات الخمس: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلا أن تطوع»، ولو قلنا بوجوب الركعتين؛ لحرم على المحدث الحدث الأصغر دخول المسجد حتى يتوضأ، ولا قائل بذلك، فإذا جاز دخول المسجد على غير وضوء؛ لزم منه أنَّه لا يجب عليه سجودهما، فإن قصد دخول المسجد ليصلي فيه في الأوقات المكروهة؛ فلا يجوز له ذلك عند الشافعي)، وردَّه النووي فقال: (هي سنة بالإجماع؛ فإن من دخل في وقت كراهة؛ يكره له أن يصليهما في قول أبي حنيفة وأصحابه، وحكي ذلك عن الشافعي، والصحيح: أنه لا كراهة) انتهى.

قلت: وفي دعواه الإجماع نظر، فقد قال القاضي عياض: وظاهر مذهب مالك: أنَّهما من النوافل، وقيل: من السنن، فإذا دخل مجتازًا؛ فهل يؤمر بهما؟ خفف مالك في ذلك، وعن بعض أصحابه: أنَّ من تكرَّر دخوله المسجد سقطتا عنه، انتهى، وهذا يدلُّ على أنَّها ليست سنة، فأين الإجماع؟!

واستدلَّ ابن حجر بقوله: (قبل أن يجلس) على أنَّه إذا خالف وجلس؛ لا يشرع له التدارك، ونقله القسطلاني عن جماعة من الشافعية.

قلت: وردَّه إمام الشَّارحين بما رواه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي ذر: (أنَّه دخل المسجد، فقال له النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: «أركعت ركعتين؟» فقال: لا، قال: «قم فاركعهما»)، وترجم عليه ابن حبان: (باب تحية المسجد لا تفوت بالجلوس)، وقال الطبري: (يحتمل أن يقال: فِعلُهما قبل الجلوس فضيلة، وبعده جواز، ويحتمل أن يقال: فعلهما قبله أداء، وبعده قضاء، ويحتمل أنَّ مشروعيتهما بعد الجلوس إذا لم يَطُل الفصل) انتهى.

قلت: الاحتمال الأول هو الصواب، أمَّا الثاني؛ ففيه نظر؛ لأنَّ النفل لا يوصف بأداء ولا قضاء، فإذا فات وقت النافلة؛ لا تقضى، وأمَّا الثالث؛ ففيه نظر أيضًا؛ لأنَّ ظاهر الأحاديث أن مشروعيتهما من وقت الدخول، ويستمر إلى ما بعد الجلوس إلى أن يؤديها أو يصلِّي فريضة أو نافلة غيرها، أو يخرج من المسجد، وقال فقهاؤنا الأعلام: ومن دخل المسجد ولم يتمكن من صلاة التحية؛ فليقل أربع مرات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنَّها الباقيات الصالحات، وصلاة الحيوانات والجمادات.

ويكره دخول المسجد على سبيل المرور من غير صلاة؛ فإن اضطرَّ إلى ذلك؛ فلينو الاعتكاف ويدخل، فإنَّه يجوز وإن لم يجلس؛ لأنَّ بوضع القدم على الأرض يحصل ذلك، فإنَّ أدنى الاعتكاف لحظة من الزمن، وهي فائدة عظيمة تخفى على كثير ممن يدَّعي العلم، وأمَّا الجلوس في المسجد للمحدث [حدثًا] أصغر؛ فيجوز إجماعًا ولو لغير غرض، ولا كراهة فيه، وحديث: «إنما بُنِيت المساجد لذكر الله»؛ فضعيف، وهذا بخلاف ما يفعله أهل زماننا من الجلوس في المسجد والتكلم بكلام الناس مع الغيبة وغيرها؛ فحرام قطعًا؛ لأنَّ الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات؛ كما تأكل النار الحطب، كما ورد في الحديث، فهذا في المباح، فما بالك في الغيبة التي صارت في زماننا فاكهة المجالس؟! فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

(٦١) [باب الحدث في المسجد]

هذا (باب) حكم (الحدث) الحاصل (في المسجد)

<<  <   >  >>