لم يبلغوا الحنث؛ كانوا له حصنًا حصينًا من النار»، فقال أبو ذر: قدمت اثنين، قال: «واثنين»، قال أُبيُّ بن كعب: قدمت واحدًا، قال: «وواحدًا»، قال الترمذي: غريب، فهذا يدل صريحًا على أن الواحد كالاثنين والثلاثة.
وفي الحديث: دليل على أن أولاد المؤمنين في الجنة، وهو قول الجمهور، وأمَّا أطفال الأنبياء؛ ففي الجنة بالإجماع، وسيأتي تمامه.
(٣٦) [باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه]
هذا (باب من سمع شيئًا) فلم يفهمه كما في روايةٍ (فراجع) الذي سمعه منه، وللأصيلي: (فراجع فيه)، وفي رواية: (فراجعه) (حتى يعرفه)؛ أي: يعرف ما سمعه كما هو في حقه.
[حديث: أنَّ عائشة كانت لا تسمع شيئًا لا تعرفه]
١٠٣ - وبه قال: (حدثنا سعيد ابن أبي مريم) : الجمحي البصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومئتين، ونسبه لجدِّ أبيه، فإن أباه الحكم بن محمد بن أبي مريم (قال: أخبرنا نافع بن عمر) وفي رواية: (ابن عمر الجمحي) : وهو ابن عبد الله القرشي المكي، المتوفى سنة تسع وستين ومئة بمكة (قال: حدثني) بالإفراد (ابن أبي مُليكة)؛ بضم الميم: عبد الله -بالتكبير- ابن عبيد الله -بالتصغير-: (أنَّ عائشة) بفتح الهمزة، وأصله: بأنَّ عائشة (زوج النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ورضي عنها (كانت) محله الرفع خبر (أنَّ) (لا تسمع) وفي رواية: (لا تستمع)؛ بمثناتين فوقيتين، بينهما مهملة (شيئًا) مجهولًا موصوفًا بصفة (لا تعرفه إلَّا راجعت فيه) النبيِّ الأعظم عليه السلام (حتى) أي: إلى أن (تعرفه) وإنما جمع بين (كانت) الماضي وبين (لا تسمع) المضارع؛ استحضارًا للصورة الماضية وحكاية عنها، (وأنَّ النبيَّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) : عطف على قوله: (أنَّ عائشة) (قال) : جملة محلها الرفع خبر (أنَّ) (مَن) : موصولة مبتدأ، و (حوسب) : جملة صلتها و (عذب) : خبر المبتدأ؛ أي: استحق العذاب، (قالت عائشة) رضي الله عنها: (فقلت) : عطف على (قال) ... إلخ: (أ) كان كذلك (وليس يقول الله تعالى) وإنما قدر؛ لأنَّ همزة الاستفهام تقتضي الصدارة، وحرف العطف يقتضي تقدم الصدارة، و (يقول) : خبر (ليس)، واسمها ضمير الشأن، أو أن (ليس) بمعنى (لا)؛ أي: أولا يقول الله تعالى: ({فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا}) مفعول مطلق ({يَسِيرًا}) [الانشقاق: ٨] : صفته؛ أي: سهلًا لا يناقش فيه، (قالت)؛ أي: عائشة: (فقال) أي: النبيُّ الأعظم عليه السلام: (إنما ذلكِ)؛ بكسر الكاف خطاب للمؤنث، والأصل فيه (ذا) : وهو اسم يشار به إلى المذكر، فإن خاطبت؛ جئت بالكاف، فقلت: ذاك وذلك، فاللام زائدة، والكاف للخطاب، وفيها أن ما يومئ إليه بعيد، ولا موضع لها من الإعراب، وهو ههنا مبتدأ، وخبره قوله: (العَرض)؛ بفتح العين، من عرضت عليه كذا؛ أي: أظهرته وأبرزته، (ولكن) للاستدراك (من) موصولة متضمن معنى الشرط، وقوله: (نوقش) فعل الشرط (الحسابَ)؛ بالنصب مفعول (ناقش) ثانٍ، والأول الضمير في (نوقش) ناب عن الفاعل؛ أي: من ناقشه الله الحساب، والمناقشة: الاستقصاء في الحساب حتى لا يترك منه شيء؛ أي: من استقصي حسابه؛ (يهلِكْ)؛ بكسر اللام وإسكان الكاف، جواب الشرط، ويجوز رفع الكاف؛ لأنَّ الشرط إذا كان ماضيًا؛ جاز في الجواب الوجهان، والحديث عام في تعذيب من حوسب، والآية تدل على عدم تعذيب بعضهم وهم أصحاب اليمين، فالمراد من الحساب في الآية: العَرض؛ يعني: الإبراز والإظهار، وهو أن يعرف ذنوبه، ثم يتجاوز عنه.
وفي الحديث: فضل عائشة، وأنه عليه السلام لم يتضجر من المراجعة.
وفيه: إثبات الحساب والعرض، وإثبات العذاب يوم القيامة، وتفاوت الناس في الحساب، وظاهر قول ابن أبي مُليكة -أنَّ عائشة كانت لا تسمع شيئًا إلَّا راجعت فيه-: الإرسال؛ لأنَّ ابن أبي مليكة تابعيُّ لم يدرك مراجعتها النبيَّ الأعظم عليه السلام، لكن قولها: (فقلت: أوليس) يدل على أنه موصول، كذا حققه في «عمدة القاري»، والله تعالى أعلم.
(٣٧) [باب ليبلغ العلم الشاهد الغائب]
هذا (بابٌ) بالتنوين: (ليبلِّغِ العلمَ)؛ بالنصب (الشاهدُ)؛ بالرفع (الغائبَ)؛ بالنصب؛ أي: ليبلغ الحاضر الغائب العلم، فـ (الشاهد) : فاعل، و (الغائب) : مفعول أول له وإن تأخر في الذكر، و (العلم) : مفعول ثان، واللام في (ليبلغ) : لام الأمر، وفي الغين الكسر على الأصل في حركة التقاء الساكنين، والفتح لخفته (قاله)؛ أي: رواه عبد الله (ابن عباس) رضي الله عنهما، فما وصله المؤلف في (الحج)، (عن النبيِّ) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) ولفظه كما في «عمدة القاري» : (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر، فقال: «أيها الناس؛ أي يوم هذا؟» قالوا: يوم حرام، وفي آخره: «اللهم؛ هل بلَّغت»، قال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده؛ إنها لوصية إلى أمته، فليبلغِ الشاهد الغائب)؛ أي: العلم، فالعلم مقدر في الحديث، وليس هو رواية بالمعنى، كما زعمه بعضهم؛ لأنَّ العلم المأمور بتبليغه مقدر في الحديث، ومعلوم علمًا بديهيًّا، والقرينة تعيِّنه؛ فافهم.
[حديث: إن مكة حرَّمها الله ولم يحرِّمها الناس]
١٠٤ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: حدثني) بالإفراد، وفي رواية: بالجمع (الليث) : ابن سعد المصري (قال: حدثني) بالإفراد (سعِيد)؛ بكسر العين: المقبري، وفي رواية: (سعيد بن أبي سعيد)، وفي أخرى: (هو ابن أبي سعيد)، (عن أبي شُرَيح) بضم المعجمة، وفتح الراء، وبالمهملة، اسمه خويلد بن عمرو بن صخر على الأصح-كما في «عمدة القاري» - الخزاعي العدوي الكعبي، المتوفى سنة ثمان وستين، الصحابي رضي الله عنه: (أنَّه قال لعَمرو بن سعِيد)؛ بفتح العين في الأول، وكسرها في الثاني: ابن العاصي بن أمية القرشي الأموي، المعروف بالأشدق، قتله عبد الملك بن مروان بعد أن أمَّنه سنة سبعين من الهجرة، قال في «عمدة القاري» : (وليست له صحبة ولا كان من التابعين بإحسان، ووالده مختلف في صحبته) انتهى (وهو يبعث البُعوث)؛ بضم الموحدة، جمع البعث؛ بمعنى المبعوث، والجملة اسمية وقعت حالًا؛ والمعنى: يرسل الجيوش (إلى مكة)؛ لقتال عبد الله بن الزبير، وذلك أنَّه لمَّا توفي معاوية؛ وجه يزيد إلى عبد الله بن الزبير يستدعي منه بيعته، فخرج من مكة ممتنعًا من بيعته، فغضب يزيد وأرسل إلى مكة يأمر واليها يحيى بن حكيم يأخذ ببيعة عبد الله، فبايعه، وأرسل إلى يزيد ببيعته، فقال: لا أقبل حتى يؤتى به موثَّقًا في وثاق، فأتى ابن الزبير إلى الحرم، وقال: إنِّي عائذ بالبيت، فأبى يزيد وكتب إلى عمرو بن سعيد أن يوجه إليه جندًا، فبعث إليه هذه البعوث.
قال الشيخ الإمام بدر الدين العيني: وابن الزبير عند علماء السنة أولى بالخلافة من يزيد وعبد الملك؛ لأنَّه بويع لابن الزبير قبل هؤلاء، وهو صاحب النبيِّ الأعظم عليه السلام، ونقل ذلك عن مالك، وكان امتناعه سنة إحدى وستين من الهجرة.
(ائذن لي) أمر من (أذن يأذن)، وأصله: اأْذن، قلبت الهمزة الثانية ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، يا (أيها الأمير) حذف منه حرف النداء (أحدثْك)؛ بالجزم؛ لأنَّه جواب الأمر (قولًا)؛ بالنصب مفعول ثان لـ (أحدث) (قام به النبيُّ) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) : جملة محلها النصب صفة (قولًا) (الغدَ)؛ بالنصب على الظرفية؛ وهو اليوم الثاني (من يوم الفتح)؛ يعني: فتح مكة، وكان في عشرين من رمضان في السنة الثامنة من الهجرة (سمعته أذناي) : فاعله، وأصله: أذنان لي، فلما أضيف إلى ياء المتكلم؛ سقطت نون التثنية، والجملة محلها النصب صفة أخرى لـ (القول)، (ووعاه قلبي)؛ أي: حفظه وتحقق فهمه، وتثبت في تعقُّل معناه، وفي قوله: (سمعته أذناي) : إشارة منه إلى مبالغته في حفظه ونفي عن أن يكون سمعه من غيره، كما جاء في حديث النعمان بن بشير: (وأهوى النعمان بإصبعيه إلى أذنيه)، (وأبصرته عيناي) : أصله: عينان لي، فلما أضيف إلى ياء المتكلم؛ سقطت نون التثنية، وهذا زيادة في تحقُّق السماع والفهم عنه بالقرب منه والرؤية، وأنَّ سماعه ليس اعتمادًا على الصوت بل بالرؤية، وكل ما في الإنسان من الأعضاء اثنان؛ كالأذن والعين؛ فهو مؤنث، بخلاف الأنف ونحوه، كما في «عمدة القاري» (حين تكلَّم) النبيُّ الأعظم عليه السلام، و (حين) : منصوب على الظرفية، وهو ظرف لـ (قام) و (سمعت) و (وعاه) و (أبصرت) (به) أي: بالقول الذي أحدثك؛ (حمد الله) تعالى: جملة وقعت بيانًا لـ (تكلم)، (وأثنى عليه) عطف على (حمد) من عطف العام على الخاصِّ، (ثم قال) عليه السلام: (إنَّ مكة حرمها الله) عزَّ وجلَّ: جملة محلها الرفع خبر (إنَّ)؛ أي: من يوم خلق الله السماوات والأرض، ولا تنافي بين هذا وبين ما روي: أنَّ إبراهيم عليه