للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

الحديث ذكره أبو داود وضعفه، وقال: هو مرسل)، ورده في «عمدة القاري» بأن أبا داود لم يقل: هذا ضعيف، وإنما قال: هو مرسل، وهو مرسل من طريقين؛ أحدهما: ما رواه أبو داود، والآخر ما رواه عبد الرزاق في «مصنفه»، وقد روي هذا الحديث من طريقين مسندين؛ أحدهما: عن سمعان بن مالك، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: جاء أعرابي فبال في المسجد فأمر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكانه، فاحتفر وصب عليه دلو من ماء، أخرجه الدارقطني في «سننه»، والثاني: أخرجه الدارقطني أيضًا عن عبد الجبار بن العلاء، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سَعِيْد، عن أنس: أن أعرابيًّا بال في المسجد فقال عليه السلام: «احفروا مكانه، ثم صبوا عليه ذَنوبًا من ماء»، وروى عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: بال أعرابي في المسجد فأرادوا أن يضربوه فنهاهم النبي عليه السلام، وقال: «احفروا مكانه واطرحوا عليه دلوًا من ماء، علِّموا ويسروا»، والقياس أيضًا يقتضي هذا الحكم؛ لأنَّ الغسالة نجسة، فلا تطهر الأرض ما لم تحفر وينقل التراب.

فإن قلت: قد تركتم الحديث الصحيح واستدللتم بالحديث الضعيف وبالمرسل.

قلت: قد عملنا معاشر الحنفية بالحديث الصحيح فيما إذا كانت الأرض صلبة، وعملنا بالحديث الضعيف -على زعمكم لا عندنا- فيما إذا كانت الأرض رخوة، والعمل بالكل أولى من العمل بالبعض وإهمال البعض كما زعمتم، وأما المرسل؛ فهو حجة ومعمول به عندنا، والذي يترك العمل بالمرسلات يترك العمل بأكثر الأحاديث، وفي اصطلاح المحدثين: أن مرسلَيْن صحيحَيْن إذا عارضا حديثًا صحيحًا مسندًا؛ كان العمل بالمرسلَيْن أولى فكيف مع عدم المعارضة، على أن حديث الباب مطلق، وأحاديثنا مقيدة، والقاعدة عند المحققين أنه يحمل المطلق على المقيد، فيتعين العمل بأحاديثنا؛ فليحفظ.

وفي الحديث دليل على صيانة المساجد وتنزيهها من الأقذار والنجاسات، يدل لذلك أن هذا الحديث أخرجه مسلم من طريق عكرمة بن عمار، عن إسحاق مطولًا، وزاد فيه: ثم إن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعاه -أي: الأعرابي- فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنَّما هي لذكر الله، والصَّلاة، وقراءة القرآن»، قال في «عمدة القاري» : وقوله: (وإنما هي لذكر الله) من قصر الموصوف على الصفة، ولفظ (الذكر) عام يتناول قراءة القرآن، وقراءة العلم، ووعظ الناس، و (الصَّلاة) أيضًا عام يتناول المكتوبة والنافلة، لكن النافلة في المنزل أفضل، ثم غير هذه الأشياء؛ ككلام الدنيا، والضحك، واللبث فيه بغير نية الاعتكاف مشتغلًا بأمر من أمور الدنيا؛ مكروه، وأما الجلوس فيه لعبادة، أو قراءة علم، أو درسه، أو سماع وعظ، أو انتظار صلاة، أو غير ذلك؛ فمستحب ويثاب على ذلك، وإن لم يكن لشيء من ذلك؛ كان مباحًا، وتركه أولى؛ لما في الحديث: «الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب»، وأما النوم فيه؛ فمذهب إمامنا رئيس المجتهدين الإمام الأعظم التفصيل؛ فإن كان مسافرًا؛ لا يكره سواء كان مقيلًا أو مبيتًا، وإن كان مقيمًا متوطنًا؛ فمكروه، وهو قول مالك، والحسن، وعطاء، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وإسحاق؛ لأنَّ عليًّا رضي الله عنه، وأهل الصفة، والمرأة صاحبة الوشاح، والعرنيين (١)، وثمامة بن أثال، وصفوان بن أمية؛ كانوا ينامون في المسجد، وهي أخبار مشهورة صحيحة كما ذكره اليعمري، وأما الوضوء فيه؛ فإن كان في مكان معد لذلك من زمن واقفه؛ فمباح، وإن توضأ في مكان غير معد لذلك، فإن كان في طشت أو نحوه؛ فلا بأس به، وإن كان على الأرض فيبلها ويتأذى منه الناس؛ فمكروه، هذا مذهبنا، وهو منقول عن ابن عمر، وابن عباس، وعطاء، وطاووس، والنخعي، وابن القاسم صاحب مالك، وإذا افتصد في المسجد؛ فإن كان في غير الإناء؛ فحرام، وإن كان في الإناء؛ فمكروه، ويجوز الاستلقاء في المسجد ومد الرجل وتشبيك الأصابع؛ للأحاديث الواردة الثابتة في ذلك، وتمامه في «عمدة القاري،» اللهم فرج عنا وعن المسلمين يا أرحم الراحمين.

(٥٨) [باب صب الماء على البول في المسجد]

هذا (باب) حكم (صب الماء)؛ أي: سكبه (على البول)؛ أي: بول البائل (في المسجد)؛ أي مسجد من مساجد الله عز وجل، وإذا جعلنا الألف واللام فيه للعهد؛ يكون المعنى: في مسجد النبي الأعظم عليه السلام أو في غيره.

[حديث: دعوه وهريقوا على بوله سجلًا من ماء أو ذنوبًا من ماء]

٢٢٠ - وبالسَّند قال: (حدثنا أبو اليَمَان)؛ بفتح التحتية، وتخفيف الميم، الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب)؛ هو ابن أبي حمزة الحمصي، (عن الزُّهْرِي)؛ محمَّد بن مسلم ابن شهاب، (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بالتصغير (بن عبد الله) بالتكبير (بن عُتْبَة)؛ بضمِّ العين المهملة، وسكون الفوقية، وفتح الموحدة، (بن مسعود)؛ هو أخٌ لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وروى سفيان بن عيينة، عن الزُّهْرِي: (عن سَعِيد بن المسيب) بدل (عبيد الله)، وتابعه سفيان بن جبير قال: (ظاهر أن الراويتين صحيحتان) : (أن أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه، (قال: قام أعرابي)؛ بفتح الهمزة، الأقرع بن حابس التميمي، أو ذو الخويصرة اليماني، أو غيرهما.

وزاد ابن عيينة عند الترمذي وغيره: أنه صلى، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمَّدًا ولا ترحم معنا أحدًا، فقال له النبي عليه السلام: «لقد تحجرت واسعًا»، فلم يلبث أن بال في المسجد، وعند ابن ماجه: «لقد اختصرت واسعًا»، وعنده من حديث واثلة بن الأسقع: «لقد حصرت واسعًا»، وعنده أيضًا: «لقد حصرت واسعًا ويلك أو ويحك!»، وقوله: (لقد تحجرت واسعًا)؛ أي: ضيَّقْتَ ما وسَّعَه الله تعالى، وخصصتَ به نفسك دون غيرك، ويروى: (احتجزت) بمعناه (٢)، ومادته حاء مهملة، ثم جيم، ثم راء، وقوله: (احتصرت)؛ بالمهملتين من الحصر؛ وهو الحبس والمنع، كذا في «عمدة القاري».

(فبال في المسجد)؛ أي: شرع في البول في ناحية من المسجد النبوي، ولأبي ذر: (قام أعرابي في المسجد فبال)؛ أي: فيه، (فتناوله الناس)؛ أي: وقعوا فيه يؤذونه بألسنتهم لا بأيديهم، وعند المؤلف في (الأدب) : (فثار إليه الناس)، وله في رواية عن أنس: (فقاموا إليه)، وفي رواية أنس أيضًا في هذا الباب: (فزجره الناس)؛ أي: بقولهم له: مه مه، كما للنسائي، وأخرجه البيهقي من طريق عبدان، وفيه: (فصاح به الناس)، ولمسلم من طريق إسحاق عن أنس: (فقال الصحابة رضي الله عنهم: مه مه)، قلت: و (مه) كلمة بنيت على السكون، وهي اسم سمي به الفعل؛ ومعناه: اكفف؛ لأنَّه للزجر، فإن وصلت؛ نونت، فقلت: مهٍ مهْ، و (مه) الثاني تأكيد كما تقول: صه صه، وفي رواية للدارقطني: (فأقاموه، فقال عليه السلام: «دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة، فصبوا على بوله الماء»)، كذا في «عمدة القاري».

(فقال لهم)؛ أي: للصحابة (النبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم: دعُوه)؛ بضمِّ العين المهملة؛ أي: اتركوه يتمم بوله، وفي رواية الدارقطني: (دعوه عسى أن يكون من أهل الجنة)، كما سبق؛ فافهم، (وهَريقوا)؛ بفتح الهاء، وعند المؤلف في (الأدب) : (وأهريقوا)، وأصله: أريقوا، من الإراقة، فالهاء زائدة، وعلى الرواية الأولى تكون الهاء بدلًا من الهمزة؛ أي: صبوا (على بوله)؛ أي: بول الأعرابي بعد أن يَجِفَّ حتى يتسفل الماء، على التفصيل الذي سبق، فإن الحديث مطلق، والأحاديث التي تقدمت مقيدة وعليها المعول (سَجْلًا)؛ بفتح السين المهملة، وسكون الجيم: الدلو الضخم المملوء ماء، وهو مذكر (من ماء) صفة لـ (سَجْلًا)، ونكر (ماء) ليشمل المائعات فإن حكمها حكم الماء في الإزالة؛ فافهم، (أو ذَنوبًا من ماء)؛ بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيمة، ولا تسمى ذَنوبًا إلا إذا كان فيها ماء، وهو يذكر ويؤنث، قال الكرماني: (ولفظ «من» زائدة، وزيدت تأكيدًا، وكلمة «أو» تحتمل أن تكون من كلامه عليه السلام فتكون للتخيير، وأن تكون من الراوي،


(١) في الأصل: (والمغربيين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (معناه)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>