رضي الله عنه: ومطابقة هذا الحديث للترجمة ظاهرة إلا في الدلك وكيفية الغسل صريحًا؛ لأنَّ الترجمة مشتملة على الدلك أولًا وكيفية الغسل، وأخذ الفرصة الممسكة، والتتبع بها أثر الدم، والحديث أيضًا مشتمل على هذه الأشياء ما خلا الدلك وكيفية الغسل؛ فإنه لا يدل عليهما صريحًا، ويدل على الدلك بطريق الاستلزام؛ لأنَّ تتبع أثر الدم يستلزم الدلك، وهو ظاهر، وأما كيفية الغسل؛ فالمراد بها: الصفة المختصة بغسل المحيض؛ وهي التطيب، لا نفس الاغتسال، ولئن سلمنا أن المراد الكيفية -أي: كيفية نفس الغسل-؛ فهي في أصل الحديث الذي ذكره واكتفى به على عادته أنه يذكر ترجمة، ويذكر فيها ما تضمنه بعض طرق الحديث الذي يذكره؛ إما لكون تلك الطريق على غير شرطه أو باكتفائه بالإشارة إليه أو لغير ذلك من الأغراض، وتمامه عند مسلم؛ فإنه أخرجه من طريق ابن عيينة عن منصور التي أخرجه منها البخاري، فذكر بعد قوله:(كيف تغتسل) : ثم تأخذ، ثم رواه من طريق أخرى عن صفية عن عائشة، وفيها كيفية الاغتسال، ولفظه: فقال: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها -أي: أصوله- ثم تصب عليها، ثم تأخذ فرصة...»؛ فذكر الحديث، وإنما لم يخرجه البخاري من هذا الطريق؛ لكونه من رواية إبراهيم بن مهاجرة عن صفية، وليس هو على شرطه، فقال البخاري عن علي ابن المديني:(لإبراهيم هذا نحو من أربعين حديثًا)، وقال ابن مهدي:(قال سفيان: لا بأس به)، وقال أحمد:(لا بأس به)، وقال يحيى بن سَعِيْد القطان:(لم يكن بقوي، وذكره ابن الجوزي في الضعفاء) انتهى كلامه
قلت: ابن الجوزي مشهور بالتعصب والعناد والمكابرة؛ فلا عبرة به، وابن القطان كلامه غير ظاهر، فالمراد على كلام ابن مهدي وسفيان وأحمد بن حنبل: أنه لا بأس به، وكفى بذلك شهادة من هؤلاء الأئمَّة والمثبت مقدم على النافي، وإذا وجد التعديل والجرح؛ فالمقدم التعديل، وعلى هذا؛ كان على المؤلف أن يذكر الحديث؛ لكونه أظهر، والإحالة على غير مذكور غير مناسبة مع ما فيه من الركاكة والخفاء، والله أعلم؛ فافهم.
ثم قال إمام الشارحين في «عمدة القاري» : وفي الحديث: استحباب التطيب للمغتسلة من الحيض والنفاس على جميع المواضع التي أصابها الدم من بدنها؛ لأنَّه أسرع إلى العلوق وأدفع للرائحة الكريهة، واختلف في وقته؛ فقال جماعة: بعد الغسل، وقال آخرون: قبله، وفيه دليل على أنه لا عار على من سأل عن أمر دينه، وفيه: استحباب تطييب (١) فرج المرأة بأخذ قطعة من صوف ونحوها، وتدخلها في فرجها بعد الغسل، والنفساء مثلها، وفيه التسبيح عند التعجب، وفيه استحباب الكنايات فيما يتعلق بالعورات، وفيه سؤال المرأة العالم عن أحوالها التي يختم بها؛ ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها في نساء الأنصار:(لم يمنعهنَّ الحياء أن يتفقهن في الدين)، وفيه الاكتفاء بالتعريض والإشارة في الأمور المستهجنة، وفيه تكرير الجواب لإفهام السائل، وفيه تفسير كلام العالم بحضرته لمن خفي إذا عرف أن ذلك ينجيه، وفيه أن السائل إذا لم يفهم وفهمه بعض من في مجلس العالم والعالم يسمع؛ أن ذلك سماع من العالم؛ لجواز أن يقول فيه:«حدثني» و «أخبرني»، وفيه الأخذ عن المفضول مع وجود الفاضل وحضرته، وفيه صحة العرض على المحدث إذا أقره ولو لم يقل عقيبه: نعم، وفيه أنه لا يشترط فهم السامع لجميع ما يسمعه، وفيه الرفق بالمتعلم وإقامة العذر لمن لا يفهم، وفيه أن المرء مطلوب بستر عيوبه، وفيه دلالة على حسن خلق النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، اللهم؛ إني أسألك بجاهه أن تفرج عنا وعن المسلمين ما أهمنا، اللهم؛ عليك بالظالمين الباغين الفاجرين، فإنهم لا يعجزونك، يا أكرم الأكرمين.
(١٤)[باب غسل المحيض]
هذ (باب) بيان كيفية (غسل) بضمِّ الغين المعجمة وفتحها، والأول أفصح؛ أي: المرأة من (الحيض) وفي رواية: (المحيض)؛ وكلاهما مصدران، وغسلها من الحيض كغسلها من الجنابة سواء، غير أنها تزيد على ذلك استعمالها الطيب، وهذا الباب في الحقيقة لا فائدة في ذكره؛ لأنَّ الحديث الذي فيه هو الحديث المذكور في الباب الذي قبله غير أن ذلك عن يحيى عن منصور، وهذا عن مسلم، عن وهيب، عن منصور، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».
[حديث: خذي فرصةً ممسكةً، فتوضئي ثلاثًا]
٣١٥ - وبالسَّند إلى المؤلف قال:(حدثنا مسلم) بضمِّ الميم الأولى، هو ابن إبراهيم، كما في رواية الأصيلي (قال: حدثنا وهيب) بضمِّ الواو مصغرًا، هو ابن خالد (قال: حدثنا منصور) هو ابن عبد الرحمن بن طلحة، (عن أمه) هي صفية بنت شيبة بن عثمان بن أبي طلحة العبدري، (عن عائشة) الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما قالت: (أن امرأة من الأنصار) واسمها أسماء بنت شَكَل -بفتح الشين المعجمة والكاف، آخره لام، كما في رواية مسلم- الأنصارية التي يقال لها: خطيبة النساء، هذا هو الصواب كما سبق لأولي الألباب، (قالت للنبي) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وهو في حجرته (كيف أغتسل من المحيض؟)؛ بالميم، أي: الحيض؛ وكلاهما مصدران، (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (خذي) هو بيان الكيفية، وذلك كما في رواية مسلم:«تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى يبلغ شؤون رأسها-أي: أصوله-؛ ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ»(فِرْصة)؛ بكسر الفاء، وسكون الراء، أي: قطعة من صوف أو قطن، وما زعمه ابن حجر من أن «القرصة» بالقاف والصاد المهملة؛ أي: شيئًا بطرف الأصابع؛ مردود بنقل أئمة اللغة مع ما فيه من خلاف المعنى المقصود، وهذا قول من لم يشم شيئًا من رائحة العلم، (مُمَسَّكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وتشديد السين المهملة مع فتحها، أي: مطيبة بالمسك؛ وهو دم الغزال المعروف، (وتوضئي)؛ أي: تنظفي؛ لأنَّ الوضوء في اللغة: النظافة، وفي رواية:(فتوضئي)، وفي أخرى:(فتوضئي بها) أي: بالفرصة (ثلاثًا) متعلق بـ (قال) أي: ثلاث مرات، لا بـ (توضئي)، ويحتمل تعلقه بـ (قالت)