للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

السؤال لم يكن عن نفس الاغتسال؛ لأنَّ ذلك معلوم لكل أحد، بل إنَّما كان ذلك مختصًا بغسل الحيض؛ فلذلك أجاب به، أو الجملة حالية، لا بيانية) انتهى.

ورده إمام الشارحين في «عمدة القاري» حيث قال: قلت: هذا الجواب غير كاف؛ لأنَّها سألت عن غسلها من المحيض، وليس هذا إلا سؤال عن ماهية الاغتسال؛ فلذلك قال عليه السلام في جوابه إياها: «فأمرها كيف تغتسل» يعني: قال لها: اغتسلي كذا وكذا، وهذا معناه.

ثم قوله: «خذي...» إلخ: ليس بيانًا للاغتسال المعهود.

وقوله: (لأن ذلك معلوم لكل أحد) فيه نظر؛ لأنَّه يحتمل ألَّا يكون معلومًا لها على ما ينبغي، أو كان في اعتقادها أن الغسل عن المحيض خلاف الغسل من الجنابة؛ فلذلك قالت عائشة رضي الله عنها: (سألَتِ النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عن غسلها من المحيض)، قال: والأوجه عندي أن الذي رواه البخاري مختصرًا من لفظ الحديث، وفيه بيان كيفية الغسل وغيره على ما رواه مسلم: أن أسماء سألت عن غسل المحيض، فقال عليه السلام: «تأخذ إحداكن ماءها وسدرها، فتطهر، فتحسن الطهور، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكًا شديدًا حتى تبلغ شؤون رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة فتطهر بها»، فقالت أسماء: وكيف تطهر (١) بها؟ فقال: «سبحان الله، تطهري بها؟!»، فقالت عائشة رضي الله عنها -كأنها تخفي ذلك-: تتبعين بها الدم، وسألته عن غسل الجنابة، فقال: «تأخذ ماء، فتطهر، فتحسن الطهور، وتبلغ الطهور، ثم تصب على رأسها، فتدلكه حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض عليها الماء»، فقالت عائشة: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين) انتهى كلامه رضي الله عنه، وتبعه القسطلاني وغيره فكان هو الصواب.

(فِرْصة) : المشهور فيه كسر الفاء، وسكون الراء، كذا في «عمدة القاري»، ويفهم منه أن فاءه مثلثة، وبه صرح القسطلاني، وكان أبو الأحوص وأبو عوانة يقولان: (فرصة)، وقال ابن سيده: (فرص الجلد فرصًا: قطعه، والمفراص: الحديدة التي يقطع بها، والفرصة والفرصة والفرصة: القطعة من الصوف أو القطن)، وقال كراع: (هي الفَرصة؛ بالفتح، والفرصة: القطعة من المسك)، وقال أبو علي: (فرص يفرص لزيد في حقه؛ يعني: قطع له منه شيئًا)، وقال أبو سليمان: (يفرص وأفرص لزيد فرصة من حقه؛ بجر الفاء لا اختلاف فيها، وأفرص لي من حقي فرصة، والفرصة: الخرقة التي تستعملها الحائض؛ لتعرف التبرئة ونقاءها عند الحيض في آخره)، وقال أبو عبيدة: (هي القطعة من الصوف، أو القطن، أو غيرها)، وقال ابن عديس: (الفِرص بالكسر، والصاد المهملة: جمع لـ «فرصة»؛ وهي القطعة من المسك)، وأنكر ابن قتيبة كونها بالفاء وقال: (إنما هي قرضة؛ بالقاف، والضاد المعجمة؛ وهي القطعة)، وزعم ابن حجر أنها قرصة؛ بالقاف، والصاد المهملة، قال المُنْذِري: (أي: شيئًا يسيرًا يشمل القرصة بطرف الأصبعين)، كذا قرره في «عمدة القاري».

قلت: والرواية ثابتة بالفاء والصاد المهملة، ولا مجال للرأي في مثله، والمعنى صحيح بنقل أئمة اللغة، فلا وجه لإنكار ابن قتيبة، وكذا لا وجه لما زعمه ابن حجر؛ فإنه بعيد جدًّا، ولعله لم يطلع على ما قاله أئمة اللغة، فقال ما قال على أنه المعنى على ما ذكره غير صحيح، بل هو فاسد مردود عليه؛ فانظر كلامه؛ تجده لم يقله صغار الطلبة فضلًا عمن تصدر لشرح هذا الكتاب؛ فإنه لم يشم رائحة الصواب، والله ولي الألباب.

(من مَسك) بفتح الميم في أكثر الروايات، قاله القاضي عياض، وقال ابن قتيبة: (بكسر الميم)، ورجحه النووي؛ وهو دم الغزال المعروف، وهو جلد عليه شعر، وقال ابن قتيبة: (المسك لم يكن عندهم من السعة بحيث يتمونونه في هذا، والجلد ليس فيه ما يميز غيره فيختص به)، وإنما أراد: وأقرصة من شيء صوف، أو قطن، أو خرقة، أو نحوه، يدل عليه الرواية الأخرى: (فرصة مُمَسَّكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وفتح الثانية، وتشديد السين المهملة مع فتحها، أي: قطعة من صوف ونحوها مطيبة بالمسك، وروي: (مُمْسَكة)؛ بضمِّ الميم الأولى، وسكون الثانية، وسين مهملة مخففة مفتوحة، وقيل: مكسورة، أي: من الإمساك، وفي بعض الروايات: (خذي فرصة ممسكة فتحملي بها) قيل: أراد الخلِق التي أمسكت كثيرًا؛ كأنه (٢) أراد ألَّا تستعمل الجديد من القطن وغيره؛ للارتفاق به، ولأن الخلِق أصلح لذلك، ووقع في كتاب عبد الرزاق: (يعني: بالفرصة: المسك وهي الذريرة)، وفي «الأوسط» للطبراني: (خذي سكيلك)، كذا قرره صاحب «عمدة القاري»، (فتطهري) أي: تنظفي، وفي الرواية الآتية (٣) : (توضئي ثلاثًا) (بها) أي: بالفرصة المذكورة (قالت) أي: أسماء المذكورة: (كيف أتطهر بها؟) وإنما أتت بالاستفهام؛ لأنَّ التطهر لم يكن معلومًا لها على ما ينبغي، أو كان في اعتقادها أن التطهر من الحيض خلاف التطهر من الجنابة؛ فلهذا كررت السؤال؛ فافهم هذا، وما عداه ساقط واهٍ؛ فليحفظ، (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (سبحان الله) وهو في مثل هذا الموضع يراد به التعجب، ومعنى التعجب هنا كيف يخفى مثل هذا الظاهر الذي لا يحتاج الإنسان في فهمه إلى فكر؟! وزاد في الرواية الآتية: (ثم إن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم استحى فأعرض بوجهه)، وفي رواية الإسماعيلي: (فلما رأيته يستحي؛ علَّمتها)، وزاد الدارمي: (وهو يسمع ولا ينكر)، كذا قاله في «عمدة القاري»، وعلى الله اعتمادي، (تطهري) ولابن عساكر: (تطهري بها، قالت: كيف؟ قال: سبحان الله، تطهري بها؟!)، قالت عائشة رضي الله عنها: (فجذبتها) بالجيم، بعدها ذال معجمة، ثم موحدة، ثم فوقية، وفي بعض الروايات: (فاجتذبتها) بجيم، ثم فوقية، ثم ذال معجمة، ثم موحدة، ثم فوقية، وفي رواية: (فأجذبتها) بإسقاط الفوقية بين الجيم والذال، يقال: جذب واجتذب واجتبذ، كذا في «عمدة القاري» (إليَّ) بتشديد الياء آخر الحروف، وهذا مقول عائشة رضي الله عنها، (فقلت) أي: قالت عائشة لأسماء رضي الله عنهما: (تتبعي) أمر من التتبع، وهو المراد من (تطهري) (بها) أي: بالفرصة المذكورة (أثر الدم) بنصب «أثر» على المفعولية لـ «تتبعي»، والمراد به: الفرج، فيستحب لها أن تتطيب في كل موضع أصابه الدم من بدنها، يدل عليه رواية الإسماعيلي: (تتبعي بها مواضع الدم)، كذا قاله إمام الشارحين في «عمدة القاري».

ثم قال


(١) في الأصل: (تطهير).
(٢) في الأصل: (أنه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (الآتي)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>