للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كما دلَّ عليه هذا الحديث، وأمَّا الصلاة في ابتداء السفر؛ فالسنة فعلها في المسجد.

وقوله: (وكان لي عليه)؛ أي: على النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (دين) هو أوقيَّة ثمن بعير (فقضاني)؛ أي: فقضانيه عند قدومه من السفر (وزادني)؛ أي: على الدين، من كلام جابر، وفي رواية الحموي: (وكان له)؛ أي: لجابر عليه؛ أي: على النبي، (فقضاني)، وعلى هذه الرواية ففيه التفات، وزعم ابن حجر أنَّ رواية غير الحموي أيضًا فيه التفات، وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (الالتفات لا يجيء إلا في رواية الحموي، لا مطلقًا)؛ فافهم.

وفي الحديث استحباب قضاء الدين زائدًا، وهو من باب المروءة.

وفي الحديث دليل على أنَّه لا يصحُّ في الأوقات الثلاثة شيء من الفرائض والواجبات التي لزمت في الذمة قبل دخول هذه الأوقات، وأمَّا النافلة؛ فتكره كراهة تحريم في هذه الأوقات ولو كان لها سبب؛ كالمنذور وركعتي الطواف وتحية المسجد ونحوها؛ لقوله في الحديث: (ضحًى)؛ أي: وقت الضحى؛ وهو ارتفاع الشمس قدر رمحين؛ لأنَّه عليه السَّلام حضر في المسجد مع طلوع الشمس، فلم يصلِّ حتى ارتفعت الشمس، وبعد ارتفاعها صلَّى؛ ولهذا قال مسعر: (ضحًى).

وزعم ابن حجر أنَّ الحديث لا حجة فيه؛ لأنَّها واقعة عين، انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار؛ لأنَّ عادته عليه السَّلام سفرًا وحضرًا عدم الصلاة في هذه الأوقات، ويدلُّ عليه حديث عقبة بن عامر: (ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أن نصلي فيها، وأن نقبر موتانا: عند طلوع الشمس حتى ترتفع، وعند استوائها حتى تزول، وحين تضيف (١) للغروب حتى تغرب)، رواه مسلم وغيره، ونحوه للنسائي ومالك في: «الموطأ»، ولعل ابن حجر لم يطَّلع على هذا، ولا ريب أنَّ النهي يقتضي الكراهة التحريمية، ولأنَّ الصلاة وجبت في وقت كامل؛ فلا تؤدَّى في وقت ناقص؛ لأنَّه عليه السَّلام قال: «إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، فإذا ارتفعت؛ فارقها...» الحديث، رواه النسائي، ولنا أحاديث كثيرة في ذلك.

قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إنَّ الترجمة في بيان الصلاة عند القدوم من السفر، ومشروعية هذه الصلاة أعمُّ من أن يكون بفعله عليه السَّلام وأن يكون بقوله، فبيَّن الأول بالحديث المعلق، والثاني بحديث جابر) انتهى.

وزعم ابن حجر: أنَّ ذكر حديث جابر بعد المطلق ليجمع بين فعله عليه السَّلام وأمره، فلا يظن أن ذلك من خصائصه، انتهى، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (وقوله: فلا يظن أن ذلك من خصائصه) ليس كذلك؛ لأنَّه يشعر أن كل فعل يصدر منه عليه السَّلام يظن فيه أنَّه من خصائصه، وليس كذلك؛ فإنَّ مواضع الخصوص لها قرائن تدل على ذلك، انتهى.

قلت: على أن ما ذكره ابن حجر اقتصار على مجرد النقل من غير معرفة حق الكلام.

وأجاب ابن حجر في «الانتقاض» بأنَّه ليس في الكلام إشعار بما قال، انتهى.

قلت: وهو كلام فاسد، بل في كلامه إشعار، كما قاله إمامنا الشَّارح؛ لأنَّه جعل الجمع بين الفعل والأمر ينفي ظنَّ أنَّ الفعل من خصائصه، ومفهومه أنَّه لولا الجمع بينهما؛ لظن ذلك في كل فعل؛ إذ لا فرق بين هذه المسألة وغيرها؛ فليحفظ.

وقال الكرماني: فإن قلت: ما وجه دلالته على الترجمة؟ قلت: هذا الحديث مختصر من مطول ذكره في (البيوع) وغيره، وفيه: أنَّه قال: (كنت مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في غزاة واشترى مني جملًا بأوقية، ثم قدم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبلي، وقدمت بالغداة، فوجدته على باب المسجد، فقال: «الآن قدمت؟» قلت: نعم، قال: «فادخل فصلِّ ركعتين»)، واعترضه إمام الشَّارحين فقال: (هذا في الحقيقة وجه الترجمة على ما ذكرناه، ولكنَّه اقتصر على مجرد النقل، ولم يوفِ حق الكلام)، وقال صاحب «التلويح» : (وليس فيه ما بوب عليه هذا؛ لأنَّ لقائل أن يقول: إن جابرًا لم يقدم من سفر؛ لأنَّه ليس فيه ما يشعر بذلك)، وردَّه إمام الشَّارحين فقال: (هذا كلام عجيب، وكيف هذا والحديث مختصر من مطول؟ وفيه التصريح بقدومه من السفر، وقد جرت عادة البخاري في مثل هذا الإحالة على أصل الحديث؛ فافهم) انتهى.

وقد اعترضه العجلوني بأنَّ هذه الاعتراضات غير واردة على ما ذكره إلا على ما ذكره ابن حجر.

قلت: بل هي واردة على جميع ما ذكر، كما علمت من عبارتهم، والحق أحقُّ أن يتبع، ولا يقول هذا إلا من لم يكن عنده شيء من الفهم؛ فافهم، والله أعلم.

(٦٠) [باب إذا دخل المسجد فليركع ركعتين]

هذا (باب) بالتنوين (إذا دخل)؛ أي: الداخل المفهوم من دخل (المسجد) : (أل) فيه للجنس؛ فيشمل كل مسجد، وفي رواية الأصيلي وكريمة: (إذا دخل أحدكم المسجد)، وقوله: (فليركع) جواب (إذا)؛ ولذا دخلته الفاء، وقوله: (ركعتين) ثابت في أكثر الروايات، ساقط في بعضها، والمراد بها: تحية المسجد؛ فإنَّه يسنُّ فعلها في وقت غير مكروه، وإنَّما اقتصر على الركعتين؛ لأنَّها المذكورة في حديث الباب، فلا يطلب في حقِّه الزيادة عليهما؛


(١) في الأصل: (تضيق)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>