للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بهذه الكرامة، وللمسجد في حصول هذه الكرامة دخل، فناسب ذكر حديث الباب ههنا بهذه الحيثية) انتهى.

واعترضه العجلوني بأن ما ذكره هو كلام ابن بطال، وابن رشيد، وابن حجر، ولا وجه لاعتراضه على ابن بطال، انتهى.

قلت: ليس من عادة إمام الشَّارحين أن يأخذ كلام غيره، وينسبه لنفسه، بل هذه عادة ابن حجر، وما ذكره ليس كلام هؤلاء، بل هو كلام من نفسه لم يسبقه إليه أحد، فهو من فيض الوهاب في مناسبة ذكر حديث الباب ههنا.

واعتراضه على ابن بطال وجيه؛ لأنَّه قال: (لأنَّ الرجلين كانا معه عليه السَّلام في المسجد، وهو موضع جلوسه مع أصحابه...) إلخ، فما معنى هذا الكلام؟ وأي مناسبة في موضع جلوسه مع أصحابه بما سبق؟ وما هذا إلا تعصب بارد.

ونقل العجلوني عنهم: أنَّه يستدل له بأنَّ الله يجعل لمن يسبح في تلك المساجد نورًا في قبورهم وفي جميع أعضائهم، وكان الأولى بالبخاري أن يترجم لهذا الحديث بـ (باب قول الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ}) [النور: ٤٠] انتهى.

قلت: وهذا كلام غير ظاهر؛ لأنَّه إنْ أراد بقوله: (يستدل له...) إلخ: وجه المناسبة بين حديث الباب وبين الذي قبله؛ فلا شك في منعه، وأنَّه بعيد؛ لأنَّ الحديث السَّابق ليس فيه ما ذكر ولا إشارة إليه، وإنْ أراد به: فضل حضور الجماعة معه عليه السَّلام؛ فلا شك في ذلك، ومع هذا فهو غير مناسب لما قبله، كما لا يخفى.

وقوله: (وكان الأولى...) إلخ؛ ممنوع أيضًا؛ لأنَّ هذه الكرامة ليست عامة في جميع الناس، فكم شخص يصلِّي وليس له نور، على أنَّ المراد بالنور: الإيمان، فمن لم يجعل الله له إيمانًا؛ فما له من إيمان وإن صلى وصام، والظَّاهر أن يقال في وجه المناسبة: إنَّ حديث الباب لما كان فيه أنَّ الرجلين كانا في مسجده عليه السلام؛ ناسب أن يذكر في (أبواب المساجد)، ومناسبته بما قبله من حيث إنَّ الرجلين كانا قد صليا معه صلاة العشاء في المسجد، وفي الحديث السَّابق: أنَّ أم سلمة كانت في المسجد، وصلت معه عليه السَّلام صلاة الصبح في المسجد وسألته، وكان الأولى أن يترجم البخاري له بـ (باب فضل الصلاة مع الجماعة)، أو (باب فضل الصلاة معه عليه السَّلام)، أو (باب فضل صلاة العشاء)؛ فتأمَّل، والله أعلم.

[حديث: أنَّ رجلين من أصحاب النبي خرجا من عند النبي في ليلة مظلمة]

٤٦٥ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن المثنى) بلفظ المفعول من التثنية، هو ابن عبيد العنزي البصري (قال: حدثنا معاذ بن هشام) هو ابن أبي عبد الله الدستوائي البصري (قال: حدثني) بالإفراد (أبي) هو هشام المذكور، (عن قتادة) هو ابن دعامة السدوسي البصري (قال: حدثنا أنس) زاد الأصيلي: (ابن مالك) هو الأنصاري، خادم النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ رجلين) بفتح الهمزة (من أصحاب النَّبي) الأعظم، وفي نسخة: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: الأنصار، وهما: عباد بن بشر وأسيد بن حضير، كما عند المؤلف في (مناقب الأنصار)، وقال حمَّاد: حدثنا ثابت عن أنس: (كان أسيد وعباد بن بشر عند النَّبي صلى الله عليه وسلم)، وقال السفاقسي: (هما عباد بن بشر وعويم بن ساعدة) انتهى.

قلت: يرده ما ذكرناه عن المؤلف.

و (عَبَّاد) : بفتح العين المهملة، وتشديد الموحَّدة، و (بِشْر) : بكسر الموحَّدة، وسكون المعجمة، الأنصاري، قُتل يوم اليمامة، و (أُسيد) : بِضَمِّ الهمزة، مُصغَّر أسد، و (حُضَيْر) : بِضَمِّ الحاء المهملة، وفتح الضَّاد المعجمة، وسكون التحتية، آخره راء، و (عُوَيم) : بِضَمِّ العين المهملة، وفتح الواو، مصغر عوم، انتهى.

(خرجا) أي: الرجلان (من عند النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: بعدما صليا صلاة العشاء معه عليه السَّلام في مسجده النَّبوي، كما يدل عليه السياق؛ فافهم، (في ليلة مظلِمة)؛ بكسر اللَّام، اسم فاعل، من أظلم الليل؛ بمعنى: ظهر، وقال الفراء: (ظلِم -بالكسر- وأظلم بمعنًى) انتهى، (ومعهما مثل المصباحين)؛ أي: نور مثل نور المصباحين، والجملة محلها نصب على الحال بالواو والضمير، وجملة: (يضيئان بين أيديهما) : محلها نصب على الحال من (المصباحين)، أو صفة لهما، لكنه بعيد، و (يضيئان) : من أضاء، تقول: ضاءت النَّار، وأضاءت مثله، وأضاءته النَّار، يتعدى ولا يتعدى، قاله الشَّارح، وقال الإمام الزمخشري: (أضاء؛ بمعنى: نور، متعد، وبمعنى: لمع، لازم، و «أظلم» يحتمل التَّعدي، ويحتمل عدمه، وهو الظَّاهر)، فـ (بين أيديهما) -أي: أقدامهما-: مفعول فيه إن كان (أضاء) لازمًا، ومفعول به إن كان متعديًا؛ فليحفظ.

(فلما افترقا) أي: الرجلان؛ أي: كل واحد (صار مع كل واحد منهما) أي: من الرجلين (واحد)؛ أي: نور واحد يضيء له وحده، وارتفاعه على أنَّه فاعل (صار) (حتى أتى أهله)؛ أي: منزلهم؛ أي: وانتهى؛ لانتهاء الحاجة.

قال إمام الشَّارحين: (وفي الحديث: دلالة ظاهرة لكرامة الأولياء، ولا شك فيه، وفيه رد على من ينكر ذلك) انتهى.

قلت: وذلك لأنَّ الإضاءة لهما كرامة ببركة النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، ومعجزة له، وخصهما بهذه الكرامة؛ لاحتياجهما إلى النور حيث خرجا من عنده في ليلة مظلمة، ولإظهار سر قوله عليه السَّلام فيما رواه أبو داود وغيره: «بَشِّر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»، فجعل الله لهما في الدنيا بعض ما ادَّخر لهما في الآخرة.

ثم قال إمام الشَّارحين: (وقد وقع مثل هذا قديمًا وحديثًا، أمَّا قديمًا؛ فمن ذلك ما ذكره ابن عساكر وغيره عن قتادة بن النعمان: «أنَّه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده عرجون، فأضاء له العرجون».

وفي «دلائل البيهقي» من حديث ميمون بن زيد بن أبي عبس: حدثني أبي: «أنَّ أبا عبس كان يصلِّي مع النَّبي صلى الله عليه وسلم الصلوات، ثم يرجع إلى بني حارثة يخرج في ليلة مظلمة مطيرة، فنورت له عصاه حتى دخل دار بني حارثة».

ومن حديث كثير بن زيد، عن محمَّد بن حمزة بن عمرة الأسلمي، عن أبيه قال: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنفرنا في ليلة مظلمة، فأضاءت أصابعي حتى جمعوا عليها ظهرهم، وما هلك منهم، وإن أصابعي لتنير»، وفي لفظ: «نفرت دوابنا ونحن في مشقة...»؛ الحديث.

وأمَّا حديثًا؛ فمن ذلك ما يثبت بالتواتر عن جماعة من طلبة العلم الثقاة: أنَّهم كانوا مع الشيخ الإمام العلامة حسام الدين الرهاوي -مصنف «البحار» وغيره- في وليمة بمدينة عينتاب في ليلة مظلمة شاتية، فلما تفرقوا؛ أراد جماعة أن ينوروا على الشيخ إلى باب داره؛ لشدة الظلمة، فما رضي بذلك فردهم، فرجعوا، وتبع الشيخ جماعة من بُعْد، فقالوا وهم يحلفون: إنَّهم شاهدوا نورين عظيمين مثل الفوانيس؛ أحدهما عن يمين الشيخ، والآخر عن شماله، فلم يزالا معه إلى أن وصل إلى باب داره، فلما فتح الباب ودخل الشيخ؛ ارتفع النوران، ولقد أخبرني عنه جماعة بكرامات أخرى غير ذلك، وهو أحد مشايخي الذين انتفعت بهم، وأخذت عنهم) انتهى كلام إمامنا الشَّارح رضي الله عنه.

ووجه مطابقة الحديث ومناسبته قد ذكرناها فيما سبق أول الباب مع مزيد كلام، والله أعلم.

<<  <   >  >>