وهذا الأثر وصله سفيان الثوري في «جامعه»، عن عطاء بن السائب، ورواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند جيد، عن عبد الوهاب الثقفي، عن عطاء بن السائب قال: رأيت ابن أبي أوفى بزق (دمًا) مخلوطًا بالبزاق، وهو يصلي من غير إظهار حروف، (فمضى في صلاته)؛ أي: استمر فيها؛ لعدم انتقاض طهره بذلك؛ لأنَّ الدم الذي يخرج من الفم إن كان من جوفه؛ فغير ناقض للوضوء عند الإمام محمد، كما في «التاترخانية»، وهو الصحيح، كما في «المحيط» و «السراج»، وإن كان من بين أسنانه؛ فالمعتبر للغلبة للبزاق وللدم، فإن غلب البزاق على الدم لا يَنْقُض، كما في مسألتنا، وإن غلب الدم؛ نقض، والغلبة تُعلَم من حيث اللون؛ فإن كان الدم المخلوط لونه أصفر؛ فهو مغلوب لا يَنْقُض، وإن كان شديد الحمرة؛ فهو غالب، وإن لم تشتدَّ حمرته؛ فمساوٍ، وهما ناقضان احتياطًا، ولم يتعرض الراوي لذلك، وظاهر كلامه هذا.
وقد روى ابن أبي شيبة عن الحسن في رجل بزق فرأى في بزاقه دمًا: أنه لم يرَ ذلك شيئًا حتى يكون عبيطًا، وروي عن ابن سيرين: (أنه ربما بزق، فيقول لرجل: انظر هل تغير الريق؟ فإن قال: تغير يبزق الثانية، فإن كان في الثالثة متغيِّرًا؛ فإنَّه يتوضأ، وإن لم يكن في الثالثة متغيِّرًا؛ لم يرَ الوضوء).
قلت: والتغيير لا يكون إلا بالغلبة، كما ذكرنا؛ فافهم، والله تعالى الكريم أعلم.
(وقال ابن عمر) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (و) قال (الحسن)؛ أي: البصري، وهذان الأثران رواهما ابن أبي شيبة في «مصنفه» (فيمن يَحْتَجِم) وللأربعة: (فيمن احتجم) : (ليس عليه إلا غَسْلُ مَحَاجمه) جمع مَحجمة -بفتح الميم-: مكان الحجامة، وبكسر الميم: اسم للقارورة، والمراد هنا الأول، وسقط لفظة: (إلا) عند أكثر الرواة؛ يعني: أن الوضوء ينتقض بالحجامة، وعليه غسل مكان الحجامة؛ لأنَّها تنجَّست بالدم النجس، فإنَّ هذين الأثرين مبنيان على سؤال سائل سأل: إذا احتجم الرجل هل يَنْجُسُ مكان الحجامة؟ فأجابا: بأنَّه يلزمه غسل مكان الحجامة؛ يعني: وإذا كان متوضِّئًا؛ ينتقض وضوءُه، فلا دلالة فيه على أنَّ الحجامة لا تنقض الوضوء؛ لأنَّه لم يصرِّح بالوضوء؛ هل السائل متوضِّئ أم لا؟ والظاهر: أن السؤال وقع عن مكان الحجامة، هل تنجس؛ فيلزم غسله، أو طاهر؛ فلا يلزم؟ ويدل لهذا لفظ أثر ابن عمر: (أنه كان إذا احتجم؛ غسل أثر محاجمه)، وأثر الحسن: أنه كان يقول: (يغسل أثر المحاجم)، ففي كلٍّ منهما لم يتعرض لذكر الوضوء، فدلَّ على أن الوضوء ينتقض، ويلزمه غسل محاجمه، وهو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، والإمام أحمد ابن حنبل وغيرهم.
وقال في «عمدة القاري» : (الدم الذي يخرج من موضع الحجامة مُخرَج وليس بخارج، والنقض يتعلق بالخارج، فإذا احتجم وخرج الدم في المَحْجَمِ بمصِّ الحجَّام ولم يَسِلْ ولم يلحق إلى موضع يلحقه حكم التطهير؛ فعلى الأصل المذكور: الوضوء لا ينتقض، ولكن لا بدَّ من غسل مَحَاجمه بأي شيء كان) انتهى.
ولئن سلمنا أنَّه على ظاهره غير ناقض؛ فهو ليس بحجة على الأئمة الحنفية والحنابلة؛ لأنَّه إن كان من أقوال الصحابة؛ فالمروي عن النبي الأعظم عليه السلام بالنقض بالدم أحق وأولى بالاتباع، وأقوال الصحابة لها تأويل ومحمل صحيح، ولا تأويل ولا محمل لأقوال النبي الأعظم عليه السلام، وإن كان من قول التابعين؛ فليس بحجة عليهم؛ لأنَّه لا يلزمنا الأخذ بما اجتهدوا به؛ لأنَّ كلَّ واحد من التابعين له اجتهاد خاصٌّ، فلا يلزم الأخذ باجتهاده، فهم رجال ونحن رجال، كما قدمناه؛ فافهم.
[حديث: لا يزال العبد في صلاة ما كان في المسجد ينتظر الصلاة]
١٧٦ - وبه قال: (حدثنا آدم)؛ بالمد، أي: ابن أبي إياس؛ بكسر الهمزة، كما صرح به في رواية (قال: حدثنا ابن أبي ذئب)؛ بالهمز، نسبه لجده الأعلى؛ لشهرته به، وإلا فهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب -واسمه هشام- بن شعبة (قال: حدثنا سعيد)؛ أي: ابن أبي سعيد؛ بكسر العين فيها (المقبُري)؛ بتثليث الموحدة والضم أشهر، وفي رواية: (عن سعيد المقبري)، (عن أبي هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه (قال: قال النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد)؛ أي المؤمن وكذا المرأة (في صلاة) خبر (يزال)؛ أي: في ثواب صلاة، والقرينة على ذلك قوله: (ما كان)، وفي رواية: (ما دام) (في المسجد) أي مسجد كان، فـ (أل) فيه للجنس، وهو شاملٌ للمكان المُعَدِّ للصَّلاة في داره أو بيته أو غيرهما؛ لأنَّ الثواب المترتب سببه الانتظار؛ فافهم، ولذا قال: (ينتظر الصلاة) جملة محلها النصب خبر للفعل الناقص (كان) أو (دام)، وإما حال و (في المسجد) الخبر، ويجوز العكس، وإنما نكَّر (الصلاة)؛ لأنَّه قصد به التنويع؛ ليُعلَم أن المراد نوع صلاته التي ينتظرها، مثلًا لو كان في انتظار صلاة الظهر كان في صلاة الظهر، وهلمَّ جرًّا، وأمَّا تعريف (المسجد)، فلأن المراد به المسجد الذي هو فيه مطلقًا، كما قلنا، والتقدير في ذلك: لا يزال العبد في ثواب صلاة ينتظرها ما دام ينتظرها، والقرينة على ذلك لفظالانتظار، ولو كان يجري على ظاهره وكان المراد حقيقتها؛ لما جاز له أن يتكلَّم، ولا أن يأتي بما لا يجوز فعله في الصلاة، فيقرأ القرآن، أو يسبِّح، أو يهلل، أو يَتَنَفَّل في غير وقت مكروه لا أنَّه يتكلم بكلام الناس كالمباح، فإنَّه ورد أنَّ الكلام المباح في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، فيظنُّ نفسه أنَّه قد فعل طاعة وحَصَّلَ ثوابًا، والحال أنه قد فعل مكروهًا وذهبت حسناته، وهذا فضلًا عما اعتيد في زماننا من الكلام المُحَرَّمِ في المسجد كالغيبة التي صارت في زماننا فاكهة المجالس، وكذا النميمة والكذب وغيرها من المحرمات التي لا يجوز فعلها في كلِّ مكان فضلًا عن المسجد، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
(ما لم يُحْدِثْ)؛ أي: ما لم يأت بالحدث، وهو أعم من أن يكون فُسَاءً أو ضُرَاطًا أو غيرهما من النواقض للوضوء من المجمع عليها والمختلف بها، وكلمة (ما) مصدرية زمانية، والتقدير: مدة دوام عدم الحدث، كما في قوله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: ٣١]؛ أي: مدة دوامي حيًّا، فحُذِفَ الظرفُ وخَلِفَتْهُ (ما) وَصِلَتُها.
(فقال رجل) هذا مدرج من سعيد (أعجمي)؛ وهو الذي لا يُفْصِح، ولا يبين كلامه، وإن كان من العرب، والعجم: خلاف العرب، والواحد: عجمي، وقال الجوهري: (لا تقل: رجل أعجمي؛ فتنسبه إلى نفسه إلا أن يكون أعجم وأعجمي؛ مثل: دوار ودواري)، قال في «عمدة القاري» بعد نقله ذلك: (فهم من كلامه أن الياء المثناة التحتية في «أعجمي» ليست للنسبة كما زعمه ابن حجر، وإنما هي للمبالغة) انتهى، قلت: وهو في غاية التحقيق؛ فافهم.
(ما الحَدَثُ يا أبا هريرة؟ قال: الصوت؛ يعني: الضرطة) ونحوها من المفسدات للطهارة المجمع عليها والمختلف بها؛ لأنَّ لفظ (الحدث) عامٌّ في سائر النواقض، وإنما خصص الحدث بالضرطة؛ لأنَّ الغالب أنَّ الخارج في المسجد حالة الانتظار إنَّما هو الريح المعبر عنه بالضرطة، فوقع الجواب طبق السؤال، ولكن فهم أبو هريرة أنَّ مقصود هذا السائل الحدث الخاص، وهو الذي يقع في المسجد حالة الانتظار، والعادة أنَّ ذلك لا يكون إلا الضرطة فوقع الجواب طبق السؤال، وإلا فأسباب النقض كثيرة، كذا في «عمدة القاري»، وهو الظَّاهر، كما في «القسطلاني» و «العجلوني»، والله أعلم.