ابن أبي شيبة، وهي بفتح الموحَّدة وسكون المثلَّثة، ويجوز فتحها: الخراج الصغير، كالجدري، (فخرج منها)؛ أي: من البثرة (دم) وعند [ابن] أبي شيبة: (فخرج منها شيء من دم فحكَّه بين أصبعيه، ثم صلى) (ولم يتوضأ)؛ لأنَّه غير ناقض للوضوء؛ لعدم سيلانه، ولا فيه قوة السيلان، كما لو تخلل بعود فخرج عليه دم لا ينتقض؛ لأنَّه غير سائل، وقال في «الهداية» : ولو خرج الدم بالعصر وكان بحيث لو لم يعصر؛ لم يسل؛ قالوا: لا ينقض؛ لأنَّه ليس بخارج، وإنما هو مُخرَج، وهو المختار، وهو ظاهر عبارة القدوري، لكن اختار في «فتح القدير» عن «الكافي» النقض قال: (وهو الأصح، واعتمده غير واحد).
قلت: والمعتبر عين السيلان، ولو بالقوة؛ لما قالوا: لو مسح الدم كلما خرج، ولو تركه لسال؛ نقض، وإلا؛ فلا، وكذا لو وضع عليه قطنة أو شيئًا آخر حتى ينشف، ثم وضعه ثانيًا وثالثًا، فإنه يجمع جميع ما نشف، فإن كان بحيث لو تركه سال؛ نقض، وإلا؛ فلا، وإنما يعرف ذلك بالاجتهاد وغلبة الظن، كذا في أكثر المعتبرات، فإذًا المعتبر السيلان، وفي مسألتنا لم يوجد السيلان ولو بالقوة؛ فلا نَقْضَ للوضوء أصلًا، فهذا حجَّة لمذهب الإمام الأعظم وأصحابه رضي الله عنهم؛ فافهم.
(وبزق)؛ بالزاي والسين والصَّاد بمعنًى واحد، كذا قاله في «عمدة القاري»، (ابن أبي أوفَى)؛ بفتح الفاء، هو عبد الله، واسم أبي أوفى: علقمة بن الحارث، الصحابي بن الصحابي، شهد بيعة الرضوان وما بعدها من المشاهد، ولم يزل بالمدينة حتى قُبِض النبي الأعظم عليه السلام، وقال في حقِّه عليه السلام: «اللهم صلِّ على آل أبي أوفى»، ثم انتقل إلى الكوفة، وتوفِّي بها سنة سبع وثمانين، وقد كُفَّ بصره، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة، وهذا عبد الله بن أبي أوفى أحد من رأى الإمامُ الأعظمُ من الصحابة وروى عنه، وكان عمر الإمام الأعظم حينئذ سبع سنين، لأنَّ مولده رضي الله عنه كان سنة ثمانين على الصحيح، وقيل: سنة سبعين، وعليه فيكون حين رآه عمره سبع عشرة سنة.
وقد صح أن الإمام الأعظم قد سمع الحديث من سبعة من الصحابة، كما بسطه في أواخر «منية المفتي»، وذكر شمس الدين بن عربشاه الأنصاري في «منظومته» ثمانية من الصحابة ممن روى عنهم الإمام الأعظم: أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن أبي أوفى، وعامر بن الطفيل، وعبد الله بن أنيس، وواثلة بن الأسقع، وعبد الله بن الحارث بن جزء، وسهل بن سعد، والسائب بن يزيد، وعبد الله بن بسر، ومحمود بن ربيع رضي الله تعالى عنهم، فهو من التابعين، كما جزم به الحافظ الذهبي، وابن حجر العسقلاني، والبدر العيني وغيرهم من الحفاظ، وأدرك بالسن نحو عشرين صحابيًّا، كما بسطه في أوائل «الضياء المعنوي»، وزاد عليه في «تنوير الصحيفة»، وقد اتَّبعه على مذهبه كثير من الأولياء الكرام؛ كإبراهيم بن أدهم، وشقيق البلخي، ومعروف الكرخي، وأبي يزيد البسطامي، وفضيل بن عياض الخراساني، وداود بن نصر الطائي، وأبي حامد اللفاف، وخلف بن أيوب، وعبد الله بن المبارك، ووكيع بن الجرَّاح، وأبي بكر الورَّاق، وغيرهم ممن لا يُحصَون، وقال أبو القاسم القشيري: (سمعت أبا علي الدقاق يقول: أخذت هذه الطريقة عن أبي القاسم النصرباذي، وقال: أنا أخذتها من الشبلي، وهو أخذها من السري السقطي، وهو من معروف الكرخي، وهو من داود الطائي، وهو أخذ العلم والطريقة من الإمام الأعظم رضي الله عنهم، وكلٌّ منهم قد أثنى عليه، وأقر بفضله)، وقال ابن المبارك في حقِّه رضي الله عنه:
لقد زان البلادَ ومن عليها... إمَامُ المسْلِمينَ أبُو حَنِيفةْ
بأحكامِ وآثارِ وفقهٍ... كآيَاتِ الزَّبُورِ عَلَى صَّحِيفَةْ
فما في المشرقين له نظيرٌ... ولا في المغربين ولا بكوفةْ
يبيت مشمِّرًا سَهَرَ الليالي... وصام نهاره لله خيفةْ
فمن كأبي حنيفة في علاه... إمام للخليقة والخليفةْ
رأيت العائبين له سفاهًا... خلاف الحق مع حجج ضعيفةْ
وكيف يحل أن يؤذى فقيه... له في الأرض آثار شريفةْ؟
وقد قال ابن إدريسٍ مقالًا... صحيح النقل في حكمٍ لطيفةْ
بأنَّ الناس في فقه عيالٌ... على فقه الإمام أبي حنيفةْ
فلعنة ربنا أعداد رمل... على من رد قول أبي حنيفةْ
فأشار رضي الله عنه بابن إدريس، وهو الإمام الشافعي حيث قال: (الناس عيال على أبي حنيفة في الفقه)، وقد تزوج الإمام محمد الشيباني بأم الشافعي، ففوض إليه كتبه وماله، فبسببه صار الشافعي فقيهًا، ولقد أنصف الشافعي حيث قال: (من أراد الفقه؛ فليلزم أصحاب أبي حنيفة، فإنَّ المعاني قد تيسَّرت لهم، والله ما صرت فقيهًا إلَّا بكتب محمد بن الحسن)، وقال: (إن من أمنِّ الناس عليَّ في الفقه محمد بن الحسن)، كذا ذكره غير واحد من الحنفية والشافعية حتى ابن حجر في «التحفة»، ولا يلتفت إلى قول المعاندين المتعصبين، وليس مثلهم إلا كمثل الذباب وقع تحت ذنب جواد في حالة كرِّه وفرِّه، ولا يخفى أن النقي لا يغيره مقل الذباب، كما أن البحر لا يفسده ولوغ الكلاب، ولله درُّ من قال:
يَا نَاطِحَ الْجَبَلِ الْعَالِي لِيُكْلِمَهُ... أَشْفِقْ عَلَى الرَّأْسِ لَا تُشْفِقْ عَلَى الْجَبَلِ
ومنشأ ذلك أنه لما شاعت فضائل الإمام الأعظم، وظهرت رفعته، ولم يظهر لأحد من الأئمة المشهورين مثل ما ظهر له من الأصحاب والتلاميذ، ولم ينتفع الناس والعلماء بمثل ما انتفعوا به وبأصحابه في تفسير الأحاديث المشتبهة، والمسائل المستنبطة، والنوازل والقضايا والأحكام، وما قال قولًا إلا أخذ به إمام من الأئمة الأعلام، وقد جعل الله الحكم لأصحابه وأتباعه من زمنه إلى هذه الأيام، إلى أن يحكم بمذهبه عيسى عليه السلام، كما في «الدر» و «القهستاني» يدل لذلك ما ذكره أهل الكشف أن مذهبه آخر المذاهب انقطاعًا، كما قاله الشعراني في «الميزان»؛ تكلموا فيه بما يليق بهم، كما تكلموا في مالك والشافعي وأحمد، بل وفي الصدِّيق وعمر وعثمان وعلي، وكل الصحابة، ولله درُّ من قال:
وَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْجُو مِنِ النَّاسِ سَالِمًا... وَلِلنَّاسِ قَالٌ بِالظُّنُونِ وَقِيلُ
وقد انتصر للإمام الأعظم السيوطي في «تبييض الصحيفة»، وابن حجر في «الخيرات الحسان»، وابن عبد الهادي الحنبلي في «تنوير الصحيفة» وغيرهم من الأئمة الأعلام، ولله درُّ القائل:
حَسْبِي مِنِ الْخَيْرَاتِ مَا أَعْدَدْته... يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي رِضَا الرَّحْمَنِ
دِينُ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْوَرَى... ثُمَّ اعْتِقَادِي مَذْهَبَ النُّعْمَانِي
وقد نظم بعض الأفاضل تاريخ مولد الإمام الأعظم ووفاته، ومولد الإمام مالك ووفاته، ومولد الإمام الشافعي ووفاته، ومولد الإمام أحمد ووفاته؛ مشيرًا إليه بحروف الجُمَل لكل إمام منهم ثلاث كلمات على هذا الترتيب حيث قال:
تَارِيخُ نُعْمَانَ يَكُنْ سَيْفٌ سَطَا... وَمَالِكٌ فِي قَطْعِ جَوْفٍ ضُبِطَا
وَالشَّافِعِيُّ صَيِّنٌ بِيْرٌ نَدٍ... وَأَحْمَدٌ بِسَبْقِ أَمْرٍ جُعِّدَا
فَاحْسبْ عَلَى تَرْتِيبِ نَظْمِ الشِّعْرِ... مِيلَادَهُمْ فَمَوْتُهُمْ كَالْعُمُرِ
وفيه إشارة إلى أنهم على هذا الترتيب كترتيب الخلفاء الراشدين: الإمام الأعظم، فمالك، فالشافعي، فأحمد رضي الله عنهم.