للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أنها كانت بعد خيبر؛ لأنَّ أبا موسى جاء بعد خيبر، كذا في «عمدة القاري».

(فرُمي) بالبناء للمفعول (رجل) هو عباد بن بشر (بسهم) من رجل من المشركين، وهو قائم يصلي، (فنزَف الدم)؛ بفتح الزاي، وفي رواية: (فنزفه الدم)؛ أي: خرج منه دم كثير حتى يضعف، كذا قاله الجوهري، وقول ابن التين: (كذا رويناه، والذي عند أهل اللغة: «نُزف» على صيغة المجهول؛ أي: سال دمه) فيه نظر؛ فافهم.

(فركع) أي: الرجل، (وسجد، ومضى في صلاته)؛ أي: لم يقطعها، فاستدلَّ به الشافعي على أنَّ الدم إذا خرج وسال؛ لا ينقض الوضوء، والاستدلال غير ظاهر؛ لأنَّه يحتمل أنَّ الرجل قد قضى تلك الصلاة بعد أنَّ عصب جراحته، ومضيُّه فيها كان لعدم علمه بخروج الدم؛ بدليل ما في الحديث المذكور، ولمَّا رأى المهاجري بالأنصاري من الدماء؛ قال: سبحان الله! ألا نبهتني أول ما رمى؟ قال: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحبَّ أن أقطعها، فنسب عدم القطع للسورة لا للصلاة، وهذا يدلَّ على أن المهاجري أنكر عليه ذلك حيث رآه في الصلاة ودمه سائل على ثيابه وبدنه، وهو يدلَّ على أن الأنصاري كان لا يعلم الحكم؛ لكونه حديث عهد بالإسلام، فعلم بذلك أنَّه لا يدري سيلان الدم منه فمضى في صلاته ثم قضاها، والدليل إذا طرقه الاحتمال؛ لا يصح الاحتجاج به.

على أنَّ احتجاج الشافعي بالحديث مشكل جدًّا؛ لأنَّ الدم إذا سال؛ أصاب بدنه ورجله، وربما أصاب ثوبه وثيابه، ونزل عليه من الدماء، ومع إصابة شيء من ذلك، فإن كان يسيرًا؛ لا تصح الصلاة معه عنده، فكيف بالكثير الفاحش؟

وأجابوا عن ذلك: بأنَّ الدم كان يخرج من الجراحة على سبيل الزَّرَق حتى لا يصيب شيئًا من ظاهر بدنه.

قلت: وهو بعيد جدًّا؛ لأنَّ الإنسان إذا جرحه موسًى أو قلم طراش جرحًا يسيرًا؛ لا بدَّ وأنَّ الدم يبقى على رأس الجرح؛ لأنَّ الدم ليس له قوة السيلان كالماء، بل هو ثقيل، وبمجرد خروجه يتجمَّد ويلطخ بالبدن والثوب، كما هو مشاهد بالعينين.

وحاول ابن حجر الاستدلال لإمامه، وجعله للمؤلف حيث قال: (والظاهر: أنَّ المؤلف يرى أنَّ خروج الدم في الصلاة لا تبطل بدليل أنه ذكر عقيبه أثر الحسن).

قلت: وهذه المحاولة لضعف استدلال إمامه فجعله للمؤلف، وهو بعيد غير صحيح أيضًا، فإن المؤلف لم ير ذلك ولا قال به، ونسبته لهذا القول رجمًا بالزعم الباطل، وأثر الحسن لا يدلُّ على شيء من ذلك أصلًا؛ لأنَّه لا يلزم من قوله: (يصلُّون في جراحاتهم) أن يكون الدم خارجًا سائلًا، ومن له جراحة؛ لا يترك الصلاة لأجلها، بل يصلي وجراحته إمَّا معصبة بشيء أو مربوطة بجبيرة، ومع ذلك لو خرج شيء من ذلك؛ لا تفسد صلاته بمجرد الخروج، ولا بدَّ من السيلان وخروجه إلى موضع يلحقه حكم التطهير؛ فافهم.

واحتج أئمتنا الحنفية بأحاديث كثيرة صحيحة منها: ما رواه الإمام المؤلف في هذا الصحيح عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إني أُستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: «لا، إنَّما ذلك عرق، وليس بحيضة، فإذا أقبلت الحيضة؛ فدعي الصلاة، وإذا أدبرت؛ فاغسلي عنك الدم» قال هشام: (قال: أي ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت)، فهذا دليل واضح على أن سيال الدم ناقض للوضوء، لا يقال: قوله: «توضئي لكل صلاة» من كلام عروة؛ لأنَّ الترمذي لم يجعله من كلام عروة وصحَّحه، ولنا أحاديث غيره ستأتيك إن شاء الله تعالى؛ فافهم.

(وقال الحسن) أي: البصري: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم)؛ جمع جِراحة؛ بكسر الجيم فيهما؛ أي: يصلون في جراحاتهم من غير سيلان الدم بأن تشدَّ بجبيرة أو تعصب بشيء، والدليل على ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه»، عن هشيم، عن يونس، عن الحسن: (أنَّه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلًا)، هذا الذي روي عن الحسن بإسناد صحيح هو مذهب الإمام الأعظم وأصحابه، وهو حجة لهم على الخصم، فبطل بذلك قول القائل: (لكونه يرد ما ذهب إليه ويبطل ما اعتمد عليه)، وليس هذا شأن المصنفين، وإنَّما هو دأب المعاندين المتعصبين الذين يدقون الحديد البارد على السندان، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فافهم.

واعترض القسطلاني: (بأنَّ الأثر الذي رواه المؤلف ليس هو الذي ذكره ابن أبي شيبة، فإنَّ الأول روايته عن الصحابة وغيرهم والثاني مذهبٌ للحسن) انتهى.

قلت: وهو ممنوع، بل الذي ذكره المؤلف هو عين ما ذكره ابن [أبي] شيبة، وهما في الحقيقة واحد، لكن دأب المؤلف الاختصار، فاقتصر المؤلف بهذه العبارة لبيان غرضه، وأحال على ما ذكره ابن أبي شيبة، وكلُّ ذلك مروي عن الصحابة، وهو مذهب الحسن؛ لأنَّه لو كان الأول روايته عن الصحابة والثاني مذهبٌ له؛ لكان مذهب الحسن مخالفًا لأقوال الصحابة، ويلزم منه القول بالرأي، وإذا وُجِدت أقوال الصحابة؛ لا مساغ للرأي عند وجودها، فثبت بذلك أنَّ الأثر المذكور وإن كان في الظاهر أنَّه أثران؛ لكنهما في الحقيقة أثر واحد مرويٌّ عن الصحابة، وهو مذهب الحسن؛ فافهم، ومنشأ الاعتراض إنَّما هو من التعصب والمحاولة؛ فافهم.

(وقال طاووس)؛ هو ابن كيسان اليماني الحميري، واسمه ذكوان، وسمي طاووسًا؛ لأنَّه كان طاووس القراء، ووصل أثره ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، عن عبد الله بن موسى، عن حنظلة، عن طاووس، توفِّي طاووسًا بمكة يوم التَّروية سنة ست ومئة، وصلى عليه هشام بن عبد الملك، (و) قال (محمد بن علي)؛ أي: ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، الهاشمي، المدني، أبو جعفر المعروف بالباقر، سمي به؛ لأنَّه بقر العلم؛ أي: شقَّه (١) بحيث عرف حقائقه، وتوفي سنة أربع عشرة ومئة، وزعم الكرماني: (أنه يحتمل أن يكون محمد بن علي المشهور بابن الحنفية)، وهو بعيد؛ لأنَّ عادة المؤلف إذا روى عن ابن الحنفية؛ صرح بقوله: (عن ابن الحنفية)، ولم يصرح بـ (محمد بن علي) ويطلق، وهو دليل على أنَّه هنا ما ذكرناه؛ فافهم، وهذا الأثر وصله أبو بشر المشهور بسمويه في «فوائده» من طريق الأعمش، (و) قال (عطاء)؛ بالمد: هو ابن أبي رباح، وأثره وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، (و) قال (أهل الحجاز)؛ من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ طاووسًا ومحمد بن علي وعطاء حجازيون، وغير هؤلاء الثلاثة مثل سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، والفقهاء السبعة من أهل المدينة، ومالك، والشافعي، وآخرون: (ليس في الدم) السائل (وضوء) بل يغسل عنه الدم، وقال الإمام الأعظم، وأصحابه، وجماعة من الصحابة، والتابعين، وأبو عمرو، والثوري، والحسن ابن حيٍّ، وعبيد الله بن الحسن، والأوزاعي، وأحمد ابن حنبل، وإسحاق ابن راهويه: إن الدم إذا سال ينقض الوضوء؛ لما رواه الدارقطني: «إلا أن يكون دمًا سائلًا»، وفيه أحاديث أخرى دالَّة على ذلك، فإن كان الدم يسيرًا غير خارج ولا سائل؛ فإنَّه لا ينقض الوضوء عندهم جميعًا، وما أعلم أحدًا (٢) أوجب الوضوء من يسير الدم إلا مجاهد وحده، وهذا الأثر ليس بحجة لمن قال: ليس في الدم السائل وضوء؛ لأنَّهم لا يرون العمل بفعل التابعين، ولا هو حجة على السادة الحنفية ومن تابعهم؛ لأنَّه لا يدل على أنَّ طاووسًا ومن معه كانوا يصلُّون والدم سائل؛ لأنَّ ذلك متعذر، ولئن سلَّمنا ذلك؛ فهو اجتهاد منهم، وقد قال الإمام الأعظم التابعي الجليل: «التابعون رجال، ونحن رجال يزاحمون ونزاحمهم»؛ والمعنى: أن أحدًا منهم إذا أدَّاه اجتهاده إلى شيء لا يلزمنا الأخذ به، بل نجتهد كما اجتهدوا، فما أدى اجتهادنا إليه؛ عملنا به وتركنا اجتهادهم، والظاهر: أنَّ هذا الأثر ليس بمروي عن النبي عليه السلام، وإنما هو اجتهاد منهم، فلا يلزمنا اتباعهم، بل نتبع المرويَّ عن النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم صريحًا، فإنَّه صرَّح بلزوم الوضوء من الدم السائل، وهو مذهبنا، وهو الحقُّ، وأدين الله عليه، والله أعلم.

(وعصر) عبد الله (ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، مما وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح (بَثْرة)؛ أي: واحدة في وجهه، كما صرح به


(١) في الأصل: (سنَّه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (أحد).

<<  <   >  >>