للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

إلا إذا كان في المسجد مكان معد للوضوء من زمن الواقف؛ فلا كراهة.

وقال ابن المنذر: (أباح كل من يحفظ العلم الوضوء فيه إلا أن يبله ويتأذى به الناس؛ فإنه يكره، فالمقصود حفظ المسجد من الغسالة وغيرها من الأوخام، وينبغي لمريد الوضوء في المسجد أن يتوضأ بإناء، ويجمع الماء فيه، ثم يلقيه في محلِّه المعدِّ له).

واستُدِل بالحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة، وعند المؤلف: «لكم سيما ليست لأحد من الأمم، تردون عليَّ غرًَّا محجَّلين من آثار الوضوء»، وقال بعضهم: ليس الوضوء مختصًّا بهذه الأمة، وإنَّما الذي اختصَّت به الأمَّة الغرَّة والتحجيل، وهو المشهور؛ لقوله عليه السلام: «هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي»، وأجاب: بأن الحديث ضعيف، ولو صحَّ؛ لاحتمل اختصاص الأنبياء دون أمتهم بخلاف هذه الأمة، وفيه شرف عظيم؛ حيث استووا مع الأنبياء في هذه الخصوصية، وامتازت بالغرَّة والتحجيل، ولكن ورد في حديث جريج عند المؤلف: (أنَّه قام، فتوضأ وصلى، ثم كلَّم الغلام)، وثبت عند المؤلف أيضًا في قصة سارة: لمَّا همَّ الملك بالدنو منها؛ قامت تتوضأ وتصلي، وفيهما دلالة على أنَّ الوضوء كان مشروعًا لهم، وعلى هذا؛ فيكون خاصيَّة هذه الأمة الغرَّة والتحجيل الناشئين عن الوضوء، لا أصل الوضوء.

ونقل الزناتي: (أن الغرَّة والتحجيل حكم ثابت لهذه الأمة من توضأ منهم ومن لم يتوضأ؛ كما قالوا: لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب)، وهو نقل غريب، وظاهر الأحاديث تقتضي خصوصية ذلك لمن توضأ منهم، وعند ابن حبان في «صحيحه» : يا رسول الله؛ كيف تعرف من لم تره من أمتك؟ قال: «غر محجلون بلق من آثار الوضوء»، كذا في «عمدة القاري».

ووقع عند الترمذي من حديث عبد الله بن بسر وصحَّحه: «أمتي يوم القيامة غرٌّ من السجود، محجَّلة من الوضوء»، قيل: هو معارض؛ لظاهر الحديث، ورُدَّ بعدم ظهور وجه المعارضة، وعليها فحديث جريج وسارة يرُدُّه؛ فليحفظ.

(٤) [باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن]

هذا (بابٌ) بالتنوين: (لا يَتوضأ)؛ بفتح أوله على البناء للفاعل، وفي رواية: (باب من لا يتوضأ)؛ بالإضافة للموصولة، وضمير الفاعل يرجع إلى المتوضئ، و (لا) : نافية، (من) للتعليل؛ أي: لأجل (الشك حتى يستيقن) الحدث، والسين: للطلب، والشك: خلاف اليقين، واليقين: العلم، واصطلاحًا: الشك: ما يستوي فيه طرف العلم والجهل بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر، فإن ترجَّح أحدهما على الآخر؛ فهو ظنٌّ والمرجوح وهمٌ، وتمامه في «عمدة القاري».

[حديث: لا ينفتل حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا]

١٣٧ - وبه قال: (حدثنا علي) : هو ابن عبد الله المشهور بابن المديني (قال: حدثنا سفيان) : هو ابن عيينة (قال: حدثنا الزهري) : محمد بن مسلم، (عن سعيد بن المسيَّب)؛ بفتح المثناة التحتية، (وعن عَبَّاد) بفتح العين المهملة، وتشديد الموحدة (بن تميم) بن زيد بن عاصم الأنصاري المدني، قيل: صحابي، والمشهور: أنه تابعي، ووقع في رواية كريمة: سقوط واو العطف من قوله: (وعن عباد) وهو غلط قطعًا؛ لأنَّ سعيدًا لا رواية له عن عباد أصلًا، والعطف صحيح؛ لأنَّ الزهري يروي عن سعيد وعباد كليهما، وكلاهما يرويان (عن عمه)؛ أي: عمُّ عباد المذكور، وهو عبد الله بن زيد بن عاصم بن كعب النجاري الأنصاري المازني المدني، له ولأبيه ولأخيه حبيب صحبة، قتل في ذي الحجة بالحرة سنة ثلاث وستين عن سبعين سنة: (أنه شكا)؛ بالألف، وهو في محل رفع خبر (أن)، وهو على صيغة المعلوم، والضمير فيه يرجع إلى عبد الله بن زيد؛ لأنَّه الشاكي، وبه صرح ابن خزيمة، والشكاية: الإخبار بسوء الفعل (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجلَ)؛ بالنصب على المفعولية، وفي رواية أنه بصيغة المجهول، و (الرجل)؛ بالرفع مفعول ناب عن الفاعل، وما قاله النووي وزعمه الكرماني؛ فغلط؛ فتفحص، (الذي يُخيَّل)؛ بالخاء المعجمة على صيغة المجهول؛ أي: يشبه ويخايل، والموصول مع صلته: صفة لـ (الرجل) على الوجهين، وسقط لفظ: (الذي) في رواية، وعليها؛ فالجملة حال من (الرجل) (أنه يجد) محله الرفع خبر (أن)، (الشيءَ)؛ بالنصب مفعوله؛ أي: الحدث خارجًا من دبره، وأمَّا القبل؛ فهو اختلاج لا ريح، فغير ناقض وإن تيقن به (في الصلاة)، و (أنَّ) مع اسمها وخبرها: مفعول لقوله: (يخيل) ناب عن الفاعل.

(فقال) عليه السلام له: (لا يَنْفَتِل)؛ بفتح التحتية، وسكون النُّون، وفتح الفاء، وكسر الفوقية، بعدها لام، من الانفتال؛ وهو الانصراف، بالرفع على أن (لا) نافية، والجزم على أنها ناهية، (أو لا ينصرف) بالوجهين، والشك من الراوي وممن دونه، وفي رواية: (لا ينصرف) من غير شك (حتى) للغاية؛ أي: إلى أن (يسمعَ)؛ بالنصب؛ بتقدير: (أن) الناصبة (صوتًا)؛ أي: من الدبر، وزاد في رواية: (خارجًا)، (أو يجد ريحًا)؛ أي: من دبره أيضًا، وفي «صحيح ابن خزيمة»، و «ابن حبان»، و «الحاكم» من حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله عليه السلام قال: «إذا جاء أحدَكم الشيطانُ، فقال: إنك أحدثت؛ فليقل: كذبت، إلا ما وجد ريحًا بأنفه أو سمع صوتًا بأذنه»؛ أي: فليقل: (كذبت) في نفسه لا ينطق بلسانه؛ لأنَّه يفسد عليه صلاته، والمراد: تحقق وجود أحدهما، ولا يشترط السماع والشم بالإجماع؛ لأنَّ الأصم لا يسمع شيئًا، والأخشم -الذي راحت منه حاسة الشم- لا يشم أصلًا، وخصَّ النوعين بالذكر وإن كان غيرهما كذلك؛ لأنَّه خرج على حرف المسألة التي سأل عنها السائل، وإنَّما عبَّر بالوجدان دون الشم؛ ليشمل ما لو لمس المحل بيده ثم شم يده، وفيه دليل على أن لمس الدبر غير ناقض للوضوء؛ فليحفظ.

وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام وقاعدة من قواعد الفقه: وهي أنَّ الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يتيقن خلافها، ولا يضر الشك الطارئ عليها، واتفق العلماء عليها، فمن تيقن الطهارة وشكَّ في الحدث؛ يحكم ببقائه على طهارته سواء حصل الشك في الصلاة أو خارجها، وهو بالإجماع إلا عن مالك روايتان؛ أحدهما: أنه يلزمه الوضوء إن كان شكه خارج الصلاة، ولا يلزمه إن كان في الصلاة، والأخرى: يلزمه بكل حال، وحكيت الأولى عن الحسن البصري، والأولى والثانية عن بعض الشافعية، وروي عن مالك أيضًا: أنَّه لا وضوء عليه.

فإن تيقن الحدث وشكَّ في الطهارة؛ فإنه محدث يلزمه الوضوء بالإجماع.

وعلى هذا الأصل مَن شَكَّ في طلاق زوجته، أو عتق عبده، أو نجاسة الماء الطاهر، أو طهارة النجس، أو نجاسة الثوب أو غيره، أو أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، أو أنه ركع أو سجد أم لا، أو نوى الصوم، أو الصلاة، أو الاعتكاف وهو في أثناء هذه العبادات وما أشبهها؛ فكل هذه الشكوك لا تأثير لها والأصل عدم الحادث.

واستدلَّ بعضهم بالحديث على أنَّ رؤية المتيمم الماء في صلاته لا تنقض طهارته، وهو استدلال فاسد لا يصح؛ لأنَّه ليس من باب ما ذكر؛ لأنَّ المقصود به جنس الخارج من البدن فالتعدي إلى غير الجنس المقصود به اغتصاب للكلام.

نكتة: جاء رجل إلى الإمام الأعظم فقال: شربت البارحة نبيذًا فلا أدري أطلقت امرأتي أم لا؟ فقال له: المرأة امرأتك حتى تستيقن أنَّك طلقتها، فتركه وذهب إلى سفيان الثوري فسأله، فقال: اذهب فراجعها، فإن كنت طلقتها؛ فقد راجعتها، وإلَّا؛ فلا تضرك المراجعة، فتركه وذهب إلى شريك فسأله، فقال: اذهب فطلقها ثم راجعها، فتركه وذهب إلى الإمام زفر فسأله، فقال: هل سألت أحدًا قبلي؟ قال: نعم، وقص عليه القصة، فقال في جواب الإمام الأعظم: الصواب قال لك، وقال في جواب سفيان: ما أحسن ما قال، ولما بلغ إلى قول شريك؛ ضحك مليًّا، ثم قال: لأضربنَّ لهم مثلًا؛ رجل مر بمشعب يسيل دمًا فشك في ثوبه هل أصابته نجاسة؟ قال له الإمام الأعظم:

<<  <   >  >>