للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أنه تصحيف.

وقال العجلوني: (المعنى صحيح فلا ينبغي الجزم بالتصحيف؛ فتأمل).

قلت: تأملته فوجدت المعنى غير مستقيم؛ لأنَّه تفوت المناسبة بين قولهما، وسياق الحديث يدل على ما قلنا؛ فافهم.

ولم يبيِّن هنا كيفية الوضوء، وفي رواية مسلم من طريق عمارة بن غزيَّة عن نعيم قال: (فتوضأ، فغسل وجهه، ويديه فرفع في عضديه، وغسل رجليه فرفع في ساقيه)، وزاد فيه أنَّ أبا هريرة قال: (هكذا رأيت رسول الله عليه السلام يتوضأ)، فأفاد رفع الوضوء، وفيه الرد على من زعم أن ذلك من رأي أبي هريرة، بل هو من روايته ورأيه معًا كذا قيل.

(فقال) وفي رواية: (قال) بحذف حرف العطف على الاستئناف، كأنَّ قائلًا قال: ثمَّ ماذا؟ فقال: قال (إني) بكسر الهمزة (سمعت النبي) الأعظم؛ مقول القول، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم يقول)؛ جملة وقعت حالًا من (النبي)، وإنَّما عبر بالمضارع؛ لأجل الاستحضار للصورة الماضية، أو لأجل الحكاية عنها، وإلا؛ فالأصل أن يقال: قال؛ بلفظ الماضي: (إن)؛ بكسر الهمزة مقول القول (أمتي)؛ اسم إن، والمراد بها: أمة الإجابة؛ لأنَّ الأمة في اللفظ واحد، وفي المعنى جمع، وهي في اللغة: الجماعة، وكل جنس من الحيوان أمة، ففي الحديث: «لولا أن الكلاب أمة من الأمم؛ لأمرت بقتلها»، ويستعمل في اللغة لمعان كثيرة: الطريقة، والدين، والحين، والملك، والرجل الجامع للخير، والرجل المنفرد بدينه، والأمة: أتباع الأنبياء عليهم السلام، وأمة محمد عليه السلام تطلق على معنيين: أمَّة الدعوة؛ وهي من بعث إليهم، وأمة الإجابة؛ وهي من صدَّقه وآمن به، وهذه هي المرادة هنا، كما قلنا، كذا في «عمدة القاري».

(يُدعون)؛ بضم أوله على صيغة المجهول، في محل رفع خبر (إنَّ)، وأصله: يدعوون؛ بواوين، تحركت الأولى، وانفتح ما قبلها؛ قلبت ألفًا، فاجتمع ساكنان الألف والواو بعدها، فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين، فصار (يدعون)، وهو إمَّا من الدعاء؛ بمعنى: النداء؛ أي: يدعون إلى الموقف؛ للحساب، وإما من الدعاء؛ بمعنى: التسمية؛ نحو: دعوت ابنِي عبدَ الرزاق؛ أي: سميته به، (يوم القيامة)؛ بالنصب على الظرفية، و (يوم) من الأسماء الشاذة؛ لوقوع الفاء والعين فيه حرفي علة، فهو من باب (ويح) و (ويل)، وهو اسم لبياض النهار من طلوع الفجر الصَّادق إلى غروب الشمس، و (القيامة) : (فعالة) من قام يقوم، وأصلها: قوامه، قلبت الواو ياء؛ لانكسار ما قبلها (غُرًَّا)؛ بالنصب حال من ضمير (يدعون)، أو مفعول ثان لـ (يدعون) على تضمنه معنى: يسمَّون، وهو بضم الغين المعجمة وتشديد الرَّاء، جمع أغر؛ أي: ذو غُرَّة؛ بالضم: وهي بياض في جبهة الفرس، والأغر من الخيل: الذي غرته أكثر من الدرهم، والتحقيق: أن الغرة نفس القدر الذي يشغله البياض، والأغر: الأبيض من كل شيء، والمراد بها: النور الكائن في وجوه أمَّة النبي الأعظم عليه السلام (مُحَجَّلين)؛ بالنصب حال بعد حال، أو مفعول ثان، أو صفة لـ (غرًا) : جمع مُحَجَّل؛ بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الجيم المفتوحة: اسم مفعول من التحجيل؛ وهو بياض يكون في قوائم الفرس كلها، وقيل: في ثلاث قوائم منهنَّ دون الأخرى؛ في رجل ويدين، ولا يكون التحجيل في اليدين خاصة إلا مع الرجلين، ولا في يد واحدة دون الأخرى إلا مع الرجلين، والأحجال: جمع حَجل؛ بالفتح؛ وهو القيد والخلخال أيضًا، والحِجل؛ بالكسر لغة فيهما، والأصل فيه: القيد، والحجلان: مشيه للقيد، والمراد به هنا أيضًا: النور في اليدين والرجلين؛ كالغرة في الوجه، فيُدعَون يوم القيامة وهم بهذه الصفة، و (يدعون) : يتعدى في المعنى بالحرف، والتقدير: إلى يوم القيامة؛ كما في قوله تعالى: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ} [آل عمران: ٢٣]، واعتُرِض بأن حذف الحرف ونصب المجرور غير مقيس، ورُدَّ بأن نجعل: (يوم القيامة) ظرفًا؛ أي: يدعون فيه غرًا محجلين (من) للتعليل؛ أي: لأجل (آثار)؛ بالمد: جمع أثر، وهو بقية الشيء (الوضوء)؛ بضم الواو وفتحها، فإن الغرة والتحجيل نشأ عن الفعل بالماء، فيجوز أن ينسب إلى كل منهما، أو (من) : للسببية؛ أي: بسبب آثار الوضوء؛ كما في قوله: {مِمَّا خَطَايَاهُمْ أُغْرِقُوا} [نوح: ٢٥]؛ أي: بسبب خطاياهم أغرقوا، وهو متعلق بـ (محجلين) أو بـ (يدعون) على الخلاف في التنازع بين الكوفيين والبصريين.

(فمن) موصولة تتضمن معنى الشرط (استطاع) أي: قدر (منكم) الخطاب للمؤمنين، (أن) مصدرية (يطيل غرته)؛ أي: الإطالة، وذلك بأن يغسل قدرًا زائدًا عن دائرة الوجه واليدين والرجلين؛ بأن يجاوز القدر المفروض في ذلك؛ (فليفعل)؛ أي: الغرة أو الإطالة، ففيه الاختصار؛ حيث حذف المفعول، واقتصر على الغرة، ولم يذكر التحجيل؛ للعلم به، ففيه: الاكتفاء؛ كما في قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحَرَّ} [النحل: ٨١]؛ أي: الحر والبرد، والدليل على أن المراد كلاهما: ما في رواية مسلم: (فليطل غرته وتحجيله).

واقتصاره على الغرة؛ وهي مؤنثة، دون التحجيل؛ وهو مذكر؛ لأنَّ محل الغرة أشرف أعضاء الوضوء، وقيل: إنه من باب التغليب، ورُدَّ بأنه ليس بتغليب حقيقي؛ لأنَّه لم يؤت فيه إلا بأحد الاسمين، والتغليب: اجتماع الاسمين أو الأسماء ويغلبا أحدهما على الآخر؛ كالقمرين، وهذا على تقدير كون قوله: (فمن استطاع...) إلخ من الحديث؛ لأنَّ المرفوع منه إلى قوله: «من آثار الوضوء»، والباقي إدراج في آخر الحديث من أبي هريرة، وقد أنكر ذلك بعضهم، ورد بما رواه أحمد من طريق فليح عن نعيم، وفي آخره: قال نعيم: (لا أدري قوله: «فمن استطاع...» إلخ من قول النبي عليه السلام أو من قول أبي هريرة)، وقد روى ذلك الحديث عشرة من الصحابة، وليس في رواية واحد منهم هذه الجملة، فهو دليل ظاهر على أنَّه إدراج.

وفي الحديث التشبيه البليغ؛ حيث شبَّه النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة بغرة الفرس وتحجيله، ويجوز أن يكون كناية؛ بأن كنى بالغرة عن نور الوجه.

وادعى ابن بطال وعياض وابن التين: اتفاق العلماء على عدم استحباب الزيادة فوق المرفق والكعب، وهي دعوى باطلة؛ لأنَّه قد ثبت عن فعل النبي الأعظم عليه السلام وأبي هريرة، وعمل العلماء وفتواهم عليه، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي وغيرهم، فهم محجوجون بالإجماع، وقد ثبت عن ابن عمر من فعله؛ كما أخرجه ابن أبي شيبة.

واستدل ابن بطال ومن تبعه بقوله عليه السلام: «فمن زاد على هذا أو نقص؛ فقد أساء وظلم»، وهو استدلال فاسد؛ لأنَّ المراد به: الزيادة في عدد المرات، أو النقص عن الواجب أو الثواب المرتب على نقص العدد، لا الزيادة على تطويل الغرة والتحجيل، وأوهام ابن بطال كثيرة بيَّنها مع ردِّها في «عمدة القاري».

وفي الحديث: جواز الوضوء على ظهر المسجد، وهو من باب الوضوء في المسجد؛ فإنَّ حرمة الأعلى كحرمة الداخل، وقد كره ذلك جمع؛ منهم الإمام الأعظم؛ لأنَّ ماء الوضوء مستعمل، وهو نجس في رواية، فينبغي حفظ المسجد عنه، ولأن إلقاء النخامة، والبصاق، والاستنشاق مما يستقذر وتعافه الطباع، فبالأولى أن يحفظ بيت العبادة عن المستقذرات،

<<  <   >  >>