قال إمامنا الشَّارح: (ولفظة «كم» سواء كانت استفهامية أو خبرية لها صدر الكلام، وإنَّما قدم لفظة «القدر» عليها؛ لأنَّ المضاف والمضاف إليه في حكم كلمة واحدة، ومميز «كم» محذوف؛ لأنَّ الفعل لا يقع مميزًا؛ والتقدير: كم ذراعًا ونحوه) انتهى.
[حديث: كان بين مصلى رسول الله وبين الجدار ممر الشاة]
٤٩٦ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عَمرو) بالواو مع فتح العين المهملة (بن زُرارة)؛ بِضَمِّ الزاي، وبراءين بينهما ألف: هو أبو محمَّد النيسابوري، المتوفى سنة ثمان وثلاثين ومئتين (قال: حدثنا) وفي رواية غير أبي ذر: (أخبرنا) (عبد العزيز بن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي، (عن أبيه)؛ أي: أبي حازم، واسمه سلمة بن دينار، ولأبي ذر: (أخبرني أبي)، (عن سهل) زاد الأصيلي: (ابن سعْد)؛ بإسكان العين المهملة: هو الساعدي الصَّحابي رضي الله عنه (قال: كان بين مصلَّى) بفتح اللَّام (رسول الله) وللأصيلي: (النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ وهو المكان الذي يصلِّي فيه، والمراد به: مقامه عليه السَّلام، وكذا هو في رواية أبي داود، قاله الشَّارح.
وزعم ابن حجر تبعًا للكرماني المراد بالمصلى: موضع القدم.
وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (يتناول ذلك موضع القدم وموضع السُّجود أيضًا) انتهى.
قلت: والتعميم أولى؛ فافهم.
(وبين الجدار)؛ أي: الحائط القبلي من المسجد النَّبوي، وفي (الاعتصام) : (مما يلي القبلة) (ممرُّ الشاة)؛ بميمين وتشديد الرَّاء: هو موضع مرورها، وفي رواية أبي داود عن سهل قال: (كان بين مقام النَّبي صلى الله عليه وسلم وبين القبلة ممر العنْز)؛ بسكون النُّون: وهو الماعز؛ أي: موضع مرورها.
قال الكرماني: و («ممر» : منصوب؛ لأنَّه خبر «كان»، والاسم: قدر المسافة أو الممر، والسياق يدل عليه) انتهى.
واعترضه البرماوي بأنَّ النصب يحتاج لثبوت الرواية حتى يحتاج للتأويل، انتهى.
قال العجلوني: (إذا لم تعلم الرواية يجوز ما تجوِّزه العربية على أنَّ صنيع الكرماني يقتضي ثبوت الرواية به؛ فتأمَّل) انتهى.
قلت: إذا لم تُعْلَم الرواية؛ لا يجوز النطق به؛ لئلا يدخل تحت الوعيد، والكرماني ليس في كلامه دلالة الاقتضاء، غاية كلامه توجيه النصب، وهو لا يقتضي ثبوت الرواية، وظاهر كلام غير واحد من الشراح أنَّ الرواية بالنصب للأكثرين، وبالرفع رواية البعض، كما يعلم من كلام إمام الشَّارحين والقسطلاني، ووجَّهَ الرفعَ في «عمدة القاري» بأن تكون (كان) تامة، ويكون (ممر الشاة) اسمها، ولا يحتاج إلى خبر، أو تكون ناقصة والخبر هو الظرف، انتهى.
ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة.
وفيه: استحباب القرب من السترة، ومذهب الإمام الأعظم: أنَّ السنة في ذلك ألَّا يزيد ما بينها وبينه على ثلاثة أذرع، كما قاله المحقق ابن أمير حاج.
قال السيد أحمد الطحطاوي: (والظَّاهر اعتبار هذا القَدْر من قَدَمه) انتهى.
قلت: فعلى هذا يكون من موضع السُّجود إلى موضع السترة مقدار موضع مرور الشاة، كما في الحديث.
وقد وَرَد الأمر بالدنو من السترة؛ منها: ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعًا: «إذا صلى أحدكم إلى سترة؛ فليَدْنُ منها لا يقطع الشَّيطان عليه صلاته».
وقال القرطبي: (بعض المشايخ حمل حديث ممر الشاة على ما إذا كان قائمًا، وحديث بلال: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى في الكعبة؛ جعل بينه وبين القبلة قريبًا من ثلاثة أذرع» على ما إذا ركع أو سجد)، قال: (ولم يحدَّ مالك في هذا حدًّا إلا أنَّ ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد ويتمكن من دفع من يمر بين يديه، وقيده بعض الناس بشبر، وآخرون: بثلاثة أذرع، وبه قال الشَّافعي وأحمد، وهو قول عطاء، وآخرون: بستة أذرع، وذكر السفاقسي: قال أبو إسحاق: «رأيت عبد الله بن مغفل يصلِّي بينه وبين القبلة ستة أذرع»، وفي رواية: «ثلاثة أذرع»، ونحوه في «مصنف ابن أبي شيبة» بسند صحيح) انتهى.
وقال ابن التين: (ويجمع بين حديث الباب وحديث بلال بأنَّه إذا قام؛ كان بينه وبين القبلة قدر ممر الشاة، وإذا سجد أو ركع؛ كان بينهما ثلاثة أذرع من موضع رجليه) انتهى.
وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
[حديث: كان جدار المسجد عند المنبر ما كادت الشاة تجوزها]
٤٩٧ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا المكي) زاد الأصيلي: (ابن إبراهيم) هو البلخي (قال: حدثنا يزيد بن أبي عُبيد)؛ بِضَمِّ العين المهملة مصغرًا: هو الأسلمي مولى سلمة ابن الأكوع، (عن سَلَمَة)؛ بفتحات: هو ابن الأكوع، واسمه سنان بن عبد الله الأسلمي المدني الصَّحابي، المتوفى بالمدينة سنة أربع وسبعين عن ثمانين سنة.
قال إمامنا الشَّارح: (ورجاله ثلاثة ذكروا في باب «إثم من كذب على النَّبي صلى الله عليه وسلم»، وهذا من ثلاثيات البخاري) انتهى.
(قال) أي: سَلمة: (كان جدار المسجد)؛ أي: النَّبوي، فاللَّام فيه للعهد (عند المِنبَر)؛ بكسر الميم وفتح الموحَّدة، من تتمة اسم (كان)؛ أي: الجدار الذي عند منبر النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وخبر (كان) جملة قوله: (ما كادت الشاة تجوزها)، ويجوز أن يكون الخبر قوله: (عند المنبر)، والجملة مستأنفة استئنافًا بيانيًّا؛ تقديره: إذا كان الجدار عند المنبر فما مقدار المسافة بينهما؟ فأجاب بقوله: (ما كادت الشاة تجوزها)؛ أي: مقدار ما كادت الشاة تجوز المسافة، وليس بإضمار قبل الذكر؛ لأنَّ سوق الكلام يدل عليه، كذا قرره إمام الشَّارحين، وتبعه البرماوي، والقسطلاني، وجوز العجلوني أن تكون الجملة خبرًا ثانيًا.
قلت: الأظهر: الأول؛ فتأمَّل.
و (تجوزها) : بالجيم والزاي، والضمير فيه عائد إلى المسافة، وهي ما بين الجدار والمنبر، و (كاد) : من أفعال المقاربة، وخبره يكون فعلًا مضارعًا بغير (أن)، كما في هذه الرواية، وفي رواية الكشميهني: (أن تجوزها)، ووجهه: ما قاله الشَّارح: أن تكون (أن) تدخل على خبر (كاد)، كما تحذف من خبر (عسى)، إذ هما أخوان يتقارضان، لا يقال: إذا دخل حرف النَّفي على (كاد)؛ يكون للنَّفي كما في سائر أفعاله؛ لأنَّا نقول: القواعد النحوية تقتضي النَّفي، والموافق هنا الإثبات؛ للحديث الأول، انتهى.
ثم قال إمام الشَّارحين: (وهذا الحديث موقوف على سَلمة، لكنه في الأصل مرفوع، يدل عليه ما رواه الإسماعيلي من طريق أبي عاصم عن يزيد بن أبي عبيد بلفظ: «كان المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بينه وبين حائط القبلة إلا قدر ما يمر العنز») انتهى، ومثله في ابن حجر والقسطلاني.
ثم قال الشَّارح: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة ظاهرة من حيث إنَّه عليه السَّلام كان يقوم بجنب المنبر؛ لأنَّه لم يكن لمسجده محراب، فيكون مسافة ما بينه وبين الجدار نظير ما بين المنبر والجدار، فكأنَّه