للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فيه من التفل تصح مجارى الحروف، أو لما فيه من التنظيف وطرد الشيطان؛ لأنَّه روي عن أبي هريرة -كما أخرجها المؤلف في (بدء الخلق) -: «إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضَّأ؛ فليستنثر ثلاثًا؛ فإن الشيطان يبيت على خيشومه»، والخيشوم: أعلى الأنف، ونوم الشيطان عليه حقيقة، أو هو على الاستعارة؛ لأنَّ ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشياطين، فهو على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستبشع إلى الشيطان، أو ذلك عبارة عن تكسُّله عن القيام إلى الصلاة، قلت: وهذا هو الظاهر، ولا مانع من حمله على الحقيقة.

وهل مبيته لعموم النائمين أو مخصوص بمن لم يفعل ما يحترس به في منامه كقراءة آية الكرسي؟

قلت: والظاهر: أنَّه مخصوص بذلك؛ فليحفظ.

وقدَّمنا أنَّ الأَولى أن يدخل إصبعه في أنفه؛ لأنَّه قد يوجد فيه بعض وسخ لزج لا يخرجه الماء، بل الإصبع، ثم هذا الأمر عند الإمام الأعظم والجمهور للندب، ويدلُّ له ما رواه الترمذي وحسنه، والحاكم وصحَّحه من قوله عليه السلام للأعرابي: «توضَّأ كما أمرك الله تعالى»، فأحاله على الآية، وليس فيها ذكر الاستنشاق، ولأن غسله باطن الوجه غير مأخوذ علينا في الوضوء، لكن ظاهر الأمر: أنَّه للوجوب، فيلزم من قال: بوجوب الاستنشاق؛ لورود الأمر به كأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور، وابن المنذر أنَّه يقول: بوجوب الاستنثار لذلك، ولأن الاستنثار إنَّما يكون من الاستنشاق، فلذا لم يذكره هنا، وهو ظاهر كلام صاحب «المغني» من الحنابلة، وقال ابن بطال: وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار لظاهر الحديث، وبما تقرر يعلم بطلان قول النووي: الإجماع على عدم وجوبه قائم، وليس القائل بالإجماع صاحب «عمدة القاري»، كما توهمه القسطلاني.

وأجاب ابن حجر عن حديث الأعرابي: بأنَّه يحتمل أن يراد بالأمر ما هو أعمُّ من آية الوضوء، فقد أمر الله باتباع نبيه، وهو المبيِّن عن الله تعالى أمره، ولم يحكِ أحدٌ ممَّن وصف وضوءه عليه السلام أنَّه ترك الاستنشاق، بل ولا المضمضة، وهو يردُّ على من لم يوجب المضمضة أيضًا، وثبت الأمر بها أيضًا في «سنن أبي داود».

وذكر ابن المنذر أن الشافعي لم يحتجَّ على عدم وجوب الاستنشاق مع صحة الأمر به إلا لكونه لا يعلم خلافًا في أن تاركه لا يعيد، وهذا دليل فقهي، فإنَّه لا يحفظ ذلك عن أحد من الصحابة ولا التابعين إلا عن عطاء، وثبت عنه: أنَّه رجع عن إيجاب الإعادة.

وردَّه في «عمدة القاري» : بأن القرينة الحالية والمقالية ناطقة صريحًا بأنَّ المراد من قوله عليه السلام للأعرابي: «كما أمرك الله» : الأمر المذكور في آية الوضوء، وليس فيها ما يدلُّ على وجوب الاستنشاق، بل ولا على المضمضة، ولأنَّه لو كان الأمر أعم لبيَّن له عليه السلام كيفية الوضوء، ولما أحاله على الآية.

وقوله: (ولم يحك أحد...) إلخ: مردود؛ بأن الأعرابي قد ترك الاستنشاق والمضمضة؛ لأنَّه لم يوجد في الآية ذكرهما، فعمل بالآية حيث أحاله عليه السلام عليها، وقول ابن المنذر... إلخ: يدلُّ على ما قلناه، وإن استدلَّ القائل على وجوبهما بمواظبة النبي عليه السلام عليهما من غير ترك، فإنَّه يلزمه أن يقول بوجوب التسمية أيضًا؛ لأنَّه لم ينقل أنَّه عليه السلام ترك التسمية فيه، ومع هذا فهي سنة أو مستحبة عند الجمهور حتى عند إمام هذا القائل الشافعي، انتهى بزيادة، وتمامه في «كشف الحجاب عن العوام».

ولم يذكر في هذه الرواية عددًا، وقد ورد في رواية سفيان عن أبي الزناد، ولفظه: «وإذا استنثر؛ فليستنثر وترًا»، أخرجه الحميدي في «مسنده»، وأصله لمسلم، وقوله: (وترًا) شامل للواحد والثلاث وما فوقهما من الأوتار، وورد في رواية للمؤلف (١) : «فليستنثر ثلاثًا»، كما ذكرناها، ويمكن أن تكون هذه الرواية مبينة لتلك الرواية، فتكون السنة فيه ثلاثًا كالاستنشاق؛ فافهم.

والمستحب: أن يستنثر بيده اليسرى، وقد بوَّب عليه النسائي، ويكره أن يكون بغير يده؛ لأنَّه يشبه فعل الدابة، وقيل: لا يكره.

(ومن) : موصولة تتضمن معنى الشرط (استجمر) : من الاستجمار؛ وهو مسح محل البول والغائط بالجمار؛ وهي الأحجار الصغار، لكن المراد الأعم يقال: الاستطابة والاستجمار والاستنجاء؛ لتطهير محل الغائط والبول، والاستجمار مختص بالمسح بالأحجار، والاستطابة والاستنجاء يكونان بالماء والأحجار، وقال ابن حبيب: وكان ابن عمر رضي الله عنهما يتأوَّل الاستجمار هنا على إجمار الثياب بالمجمر، ونحن نستحب الوتر في الوجهين جميعًا، يقال في هذا: تجمر واستجمر، فيأخذ ثلاث قطع من الطيب أو يتطيب مرات واحدة بعد الأولى، وحكي ذلك عن مالك، لكن هذا لا يصح، والأظهر الصحيح: الأول، وإنما سُمِّي التمسح بالجمار التي هي الأحجار الصغار [استجمارًا]؛ لأنَّه يطيب المحل كما يطيبه الاستجمار بالبخور، ومنه سميت: جمار الحج؛ وهي الحصيات التي نرمي بها، أو هو محمول على تجمير سرير الميت عند الغسل إن لو صح ما قاله ابن حبيب، لكن نص غير واحد أنَّه غير مراد، والمراد ما ذكرناه؛ فليحفظ؛ فافهم.

وجواب الشرط قوله: (فليوتر)؛ أي: فليجعل الحجارة التي يستنجي بها فردًا إما واحدة أو ثلاثًا أو خمسًا، والواحد يطلق عليه: وتر بإجماع أهل اللغة؛ فافهم.

ففيه دليل ظاهر، وحجة مستقيمة لإمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم وأصحابه: إلى أن الاستنجاء ليس فيه عدد مسنون؛ لأنَّ الإيتار يقع على الواحد كما يقع على الثلاث، والحديث دال على الإيتار فقط.

فإن قيل: تعيين الثلاث من نهيه عليه السلام عن أن يستنجي بأقل من ثلاث أحجار.

قلت: لمَّا دل حديث أبي هريرة الصحيح: «من فعل؛ فقد أحسن، ومن لا؛ فلا حرج» على عدم اشتراط التعيين؛ حمل هذا على أن النهي فيه كان لأجل الاحتياط؛ لأنَّ التطهير غالبًا إنَّما يحصل بالثلاث، ونحن أيضًا نقول: إذا تحقق شخص أنَّه لا يطهر إلا بالثلاث؛ يتعين عليه الثلاث، والتعيين ليس لأجل التوقيت فيه، وإنما هو للإنقاء الحاصل فيه حتى إذا احتاج إلى رابع أو خامس وهلمَّ جرًّا؛ يتعين عليه ذلك؛ فافهم، وهو مذهب مالك وغيره.

وزعم البرماوي وتبعه العجلوني بأنَّه يلزم استعمال الأمر في حقيقته ومجازه معًا، وهو مردود، بل هو من باب عموم المجاز، وهو أن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز، كما عرف في كتب الأصول، كما لا يخفى على من له أدنى وصول؛ فافهم.

وبما قررناه؛ اندفع قول الخطابي: فيه دليل على وجوب عدد الثلاث؛ إذ إنَّه لم يرد به الوتر الذي هو واحد فرد؛ لأنَّه زيادة صفة على الاسم، والاسم لا يحصل بأقل من واحد، يعلم أنَّه إنَّما قصد به ما زاد على الواحد وأدناه ثلاث؛ فانظر وتعجب من هذه المكابرة والمحاولة.

وفي الحديث: دلالة على نفي وجوب الاستنجاء للإتيان فيه بحرف الشرط، وهو ظاهر، وقدر بعضهم فقال: ومن أراد أن يستجمر؛ فليوتر، فلا يبقى فيه دلالة على وجوب الاستجمار، فثبت أنَّ الاستنجاء بالماء وبالأحجار سنة لا واجب، وهو مذهب إمامنا الإمام الأعظم والجمهور خلافًا للشافعي؛ فليحفظ.

(٢٦) [باب الاستجمار وترًا]

هذا (باب) طلب (الاستجمار) أي: بالأحجار (وَِترًا)؛ بكسر الواو وفتحها، وجه المناسبة بين البابين من حيث إنَّ المذكور في الباب السابق حكمان؛ الاستنثار والاستجمار وِترًا، والباب معقود للأول، وهذا الباب فيه ثلاثة أشياء؛ أحدها: الاستجمار وترًا، فاقتضت المناسبة أن يعقد بابًا على الحكم الآخر الذي عقد لقرينة ولم يعقد له؛ لأنَّ ما فيه حكمان وأكثر ذكر بعضها تلو بعض من وجوه المناسبة، ولا يلزم أن يكون المناسبة في الذكر بين شيئين من كل وجه سيما في كتاب يشتمل على أبواب كثيرة، والمقصود منها عقد التراجم، فاندفع بهذا كلام من يقول تخليل هذا الباب بين أبواب الوضوء -وهو باب الاستنجاء- ومرتبته التقديم على أبواب الوضوء غير موجه، كذا في «عمدة القاري»، وهو أوجه وأظهر من جواب الكرماني وجواب ابن حجر؛ لأنَّ كلًّا (٢) منهما لا يخلو عن ركاكة وتعسف، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.

[حديث: إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ثم لينثر]

١٦٢ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك) : هو ابن أنس، (عن أبي الزِناد)؛ بكسر الزاي، وبالنُّون: عبد الله بن ذكوان؛ بالذال المعجمة، (عن الأعرج) : هو عبد الرحمن بن هرمز، (عن أبي هريرة)؛ هو عبد الرحمن بن صخر


(١) في الأصل: (المؤلف)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (كل)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>