للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فزعم: فيه نظر؛ لما رواه عبد الرزاق عن الحكم بن عمرو الغفاري الصَّحابي: أنَّه صلى بأصحابه في سفر وبين يديه سترة، فمرت حمير بين يدي أصحابه، فأعاد بهم الصلاة، وفي رواية: أنَّه قال لهم: «إنَّها لم تقطع صلاتي، ولكن قطعت صلاتكم»، ويظهر أثر الخلاف: فيما لو مر بين يدي الإمام أحد، فعلى قول من يقول: إنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه؛ تضر صلاته وصلاتهم، وعلى قول من يقول: إنَّ الإمام نفسه سترة لمن خلفه؛ تضر صلاته ولا يضر صلاتهم، انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين، فقال: (لا يَرِد هذا على ما نقله القاضي عياض من الاتفاق؛ لاحتمال أنَّه لم يقف على قوله عليه السَّلام: «سترة الإمام سترة لمن خلفه»، أخرجه الطَّبراني من حديث أنس، وكذا روي عن ابن عمر، أخرجه عبد الرزاق موقوفًا عليه، على أنَّ الرواية عن الحكم مختلفة، ومع هذا لا يقاوم ما روي عن ابن عمر.

وقوله: «وأثر الخلاف» ممنوع، بل سترة الإمام سترة مطلقًا بالحديث المذكور، فإذا وجدت سترة؛ لا تضر صلاة الإمام ولا صلاة المأمومين) انتهى؛ فليحفظ.

ثم قال رضي الله عنه: (وفي الحديث: الاحتياط وأخذ الآلة؛ لدفع الأعداء سيما في السفر.

وفيه: جواز الاستخدام وأمر الخادم.

وفيه: أنَّ سترة الإمام سترة لمن خلفه، وادعى بعضهم فيه الإجماع، نقله ابن بطال، قالوا: السترة عند العلماء سنة مندوب إليها، وقال الأبهري: سترة المأموم سترة إمامه، فلا يضر المرور بين يديه؛ لأنَّ المأموم تعلقت صلاته بصلاة إمامه.

قال: ولا خلاف أنَّ السترة مشروعة إذا كان في موضع لا يأمن المرور بين يديه، وفي الأمن قولان عند مالك، وعند الشَّافعي مشروعة مطلقًا؛ لعموم الأحاديث؛ لأنَّها تصون البصر.

فإن كان في الفضاء؛ فهل يصلِّي إلى غير سترة؟ أجازه ابن القاسم؛ لحديث ابن عبَّاس المذكور، وقال مطرف وابن الماجشون: لا بد من سترة، وذكر عن عروة، وعطاء، وسالم، والقاسم، والشعبي، والحسن؛ أنهم كانوا يصلُّون في الفضاء إلى غير سترة، وقال الإمام محمَّد بن الحسن: يستحب لمن يصلِّي في الصحراء أن يكون بين يديه شيء مثل عصًا ونحوها، فإن لم يكن؛ يستتر بشجرة ونحوها.

وقال أصحابنا: المعتبر في مقدار السترة: ذراع فصاعدًا؛ لحديث طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جعلت بين يديك مثل مؤخرة الرحل؛ فلا يضرك من مرَّ بين يديك»، رواه مسلم في «صحيحه».

وذكر شيخ الإسلام في «مبسوطه» في حديث أبي جحيفة الآتي ذكره: أنَّ مقدار العنزة طول ذراع في غلظ أصبع، ويؤيد ذلك قول ابن مسعود: ويجزئ من السترة السهم، وفي «الذخيرة» : طول السهم ذراع، وعرضه قدر أصبع.

واختلف أئمتنا الأعلام فيما إذا كانت السترة أقل من ذراع، وقال شيخ الإسلام: لو وضع قناة أو جعبة بين يديه وارتفع قدر ذراع؛ كان سترة بلا خلاف، وإن كان دونه؛ ففيه خلاف.

وفي «غريب الرواية» : النهر الكبير ليس بسترة كالطريق، وكذا الحوض الكبير.

وقال مالك: تجوز القلنسوة العالية والوسادة بخلاف السوط، وجوَّز في «العتبية» : التستر بالحيوان الطاهر، بخلاف الخيل، والبغال، والحمير، وجوَّز بظهر الرجل، ومنع بوجهه (١)، وتردد في جنبه، ومنع بالمرأة، واختلفوا في المحارم، ولا يستتر بنائم، ولا مجنون، ومأبون في دبره، ولا كافر) انتهى.

وعند أحمد ابن حنبل: تكره الصلاة بموضع يحتاج فيه إلى المرور، ويحرم مرور بين مصلٍّ وبين سترته، ولو بَعُدَ عنها، ومع عدمها يحرم المرور قريبًا منه، وحد القرب: ثلاثة أذرع فأقل بذراع اليد، فإن مرَّ بين يدي المأمومين هل يأثم؟ فيه قولان له، وليس وقوفه بمكروه، كذا في «شرح الكفاية».

وقال الإمام الشرنبلالي: (وإن لم يجد ما ينصبه؛ فليَخُطَّ خطًّا؛ لحديث أبي داود، ولفظه: «فإن لم يكن معه عصًا؛ فليخط خطًّا»، فقيل: يخط طولًا، وقيل: عرضًا مثل الهلال، ولو طرح سوطًا لصلابة الأرض؛ لم يعتد به، وقال شيخ الإسلام: ولا بأس بترك السترة إذا أمن المرور؛ لحديث ابن عبَّاس) انتهى، والله أعلم.

[حديث: أن النبي صلى بهم بالبطحاء وبين يديه عنزة]

٤٩٥ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا أبو الوليد) هو هشام بن عبد الملك الطياليسي البصري (قال: حدثنا شعبة) هو ابن الحجاج، (عن عَوْن) بفتح المهملة، وإسكان الواو (بن أبي جُحَيفة) بِضَمِّ الجيم، وفتح المهملة مصغرًا (قال: سمعت أبي) هو أبو جحيفة، واسمه وهب بن عبد الله السُّوائي -بضم المهملة- الكوفي، وفي بعض النُّسخ: (يحدث) : (أنَّ النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) بفتح الهمزة (صلى بهم) أي: بأصحابه (بالبطحاء)؛ أي: بطحاء مكة، ويقال له: الأبطح أيضًا؛ وهو كل أرض منحدرة أو مسيل واسع فيه دقاق الحصى، وقد سبق تحقيقه، (وبين يديه) بالتثنية (عَنَزة)؛ بفتح العين المهملة؛ وهي نصف الرمح، وخصها بعضهم بأنَّ سنانها في أسفلها، بخلاف الرمح؛ فإنَّ له سنانًا في الأعلى وفي الأسفل أيضًا، كما لا يخفى؛ فافهم، والجملة وقعت حالًا، (الظُّهرَ)؛ بالنصب مفعول (صلى) (ركعتين)؛ بالنصب بدل من المفعول أو حال منه، وإنَّما صلاه هكذا؛ لكونه خرج من مكة ناويًا السفر؛ ففرض المسافر ركعتين، (والعصرَ) بالنصب عطفًا على ما قبله (ركعتين) : بدل أو حال أيضًا، وزاد في رواية آدم الآتية بعد بابين عن شعبة عن عون: (وذلك كان بالهاجرة)؛ وهي وقت اشتداد الحر عند الظهيرة، فكأنَّه عليه السَّلام خرج بالهاجرة فصلى الظُّهر، ثم دخل وقت العصر، فصلى العصر، فكان كل صلاة بوقتها.

وزعم النَّووي أنَّه يكون عليه السَّلام جمع بين الصلاتين في وقت الأولى، انتهى.

قلت: ليس كما قال، وليس الواقع هذا، وإنَّما قال ذلك استنصارًا لمذهبه، والحقُّ أنَّه صلى الظُّهر في وقتها، والعصر في وقتها، يدل عليه أنَّ ما رواه آدم لفظه: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة، فأُتي بوضوء، فتوضأ، فصلى بنا الظُّهر والعصر...)؛ الحديث، ولا ريب أنَّ (الهاجرة) : اشتداد الحر وهو قريب العصر، وإتيانه بوضوء ووضوؤه (٢) يحتاج إلى مدة من الزمن، فلما فرغ من الوضوء؛ صلى الظُّهر في وقتها، فلما فرغ منه؛ دخل وقت العصر، فقام فصلاه، فليس فيه الجمع بين الصلاتين كما زعمه؛ فليحفظ.

(يَمر) بمثناة تحتية مفتوحة أو بالفوقية (بين يديه) بالتثنية؛ أي: أمام النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (المرأة والحمار)؛ يعني: بين العنزة والقبلة لا بين المصطفى والسترة، يدل عليه أنَّ في رواية عمر بن زائدة في (الصلاة في الثوب الأحمر) : (ورأيت الناس والدَّواب يمرون بين يدي العنزة)؛ فليحفظ، والجملة محلها نصب على الحال، والجملة الفعلية إذا وقعت حالًا وكان فعلها مضارعًا؛ يجوز فيها الواو وتركها.

قال إمام الشَّارحين: ومطابقة الحديث للتَّرجمة من الوجه الذي ذكرناه في الحديث السَّابق، وفيه: جعل السترة بين يديه إذا كان في الصحراء، وفيه: أنَّ مرور المرأة والحمار لا يقطع الصلاة، وهو قول عامة العلماء، وبه قال الإمام الأعظم، ومالك، والشَّافعي؛ لحديث الباب، فإنَّه يدل على عدم قطع الصلاة بمرور المرأة والحمار، وحديث


(١) في الأصل: (توجهه)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٢) في الأصل: (ووضوئه)، ولا يصح.

<<  <   >  >>