تصويرًا للمعقول بالمحسوس، ومطابقته للتَّرجمة في إحدى جزأيها، واكتفى المؤلف به حيث دل حديث أبي هريرة على تمامها، كما ذكرنا.
وهذا الحديث مبني على سبب؛ وهو قصد التمثيل والتصوير في العقل بصورة المحسوس، فليس فيه دلالة على جواز التشبيك مطلقًا من غير كراهة، ولهذا قال الإمام الأعظم: ويكره تشبيك الأصابع في الصلاة، وحال السعي إليها، وحال انتظارها، وبه قال إبراهيم النخعي، ومالك، وأحمد ابن حنبل، والجمهور.
وقال في «المنحة» : (وفيه: جواز التشبيك، وهو كذلك حتى في الصلاة، لكنه فيها مكروه، وكذا في غيرها بلا حاجة) انتهى.
قلت: هو غير صحيح؛ لأنَّ الحديث ليس فيه أنَّه عليه السَّلام شبك أصابعه وهو في الصلاة، وليس في الحديث دليل على جوازه؛ لأنَّه عليه السَّلام شبك أصابعه؛ لأجل التمثيل، وهو غرض صحيح.
وقوله: (حتى في الصلاة...) إلخك تناقض ظاهر وليس هذا بمذهب إمامه الشَّافعي، وقد اختلط عليه الحكم، وقد ذكر الشَّافعية أنَّ التشبيك لا يكره إلا في الصلاة مطلقًا، أو وهو ينتظر في المسجد كما نقله غير واحد، فانظر هذا التهاون في النقل؛ فليحفظ.
[حديث: يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة؟]
٤٨٢ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا إسحاق) هو ابن منصور بن بهرام، كما جزم به أبو نعيم، وعليه درج إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر، والقسطلاني، والعجلوني.
قلت: وحيث وقع هنا غير منسوب؛ يحتمل هو ويحتمل أنَّه إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي المشهور بابن راهويه، المتوفى بنيسابور سنة ثمان وثلاثين ومئتين، ويؤيده ما قاله الجياني عن ابن السكن: إذا وقع في هذا الكتاب: (إسحاق) غير منسوب؛ فهو ابن راهويه، ولا يقدح هذا الاختلاف؛ لأنَّ كلًّا منهما يروي عنه المؤلف؛ فتأمل.
(قال: حدثنا ابن شُميل)؛ بِضَمِّ المعجمة، ولابن عساكر: (النَّضر بن شميل) هو البصري، تقدم في باب (حمل العنزة) (قال: أخبرنا) وللأصيلي: (حدثنا) (ابن عَوْن)؛ بالنُّون، وفتح العين المهملة، وإسكان الواو: هو عبد الله بن عون بن أرطبان البصري، المتوفى سنة إحدى وخمسين ومئة، (عن ابن سيرين) هو محمَّد التَّابعي المشهور، (عن أبي هريرة) هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي الصَّحابي الجليل رضي الله عنه أنَّه (قال: صلى بنا) أي: معشر الصَّحابة (رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي: في مسجده النَّبوي (إحدى صلاتي)؛ بالتثنية، قال الكرماني: وفي بعضها: بالإفراد فهي للجنس (العشي) هكذا في أكثر الروايات، وفي رواية الحموي والمستملي: (العشاء)؛ بالمد، والظَّاهر أنَّه وهم؛ لأنَّه صح في رواية أخرى للبخاري: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظُّهر أو العصر).
وفي رواية مسلم: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر)، وفي أخرى له: (صلى ركعتين من صلاة الظُّهر ثم سلم).
وفي رواية أبي داود: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي؛ الظُّهر أو العصر).
وفي رواية الطَّحاوي: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي؛ الظُّهر أو العصر، وأكبر ظني أنَّه ذكر الظُّهر)، وقوله: (أكبر ظني أنَّه ذكر الظُّهر) هو قول ابن سيرين؛ أي: أكبر ظني أنَّ أبا هريرة ذكر صلاة الظُّهر، وكذا ذكره البخاري في «الأدب».
وأطلق على الظُّهر والعصر صلاة العشي؛ لأنَّ العشي يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب، كذا قاله إمام الشَّارحين.
ثم قال: (فإن قلت: قال الجوهري: العشي والعشية: من صلاة المغرب إلى العتمة.
قلت: الذي ذكره هو أصل الوضع، وفي الاستعمال يطلق على ما ذكرنا، وقال الأزهري: العَشِيُّ؛ بفتح العين المهملة، وكسر الشين المعجمة، وتشديد التحتية: ما بين زوال الشمس وغروبها) انتهى.
قلت: وما ذكره إمامنا الشَّارح من أنَّ رواية المستملي والحموي: (العشاء) وهم، قد تبعه عليه ابن حجر، والقسطلاني، وغيرهما.
واعترضهم العجلوني بما في «الصِّحاح» : (العشاء؛ بالمد والكسر: مثل العشي؛ من صلاة المغرب إلى العتمة، والعشاءان: المغرب والعتمة، وزعم قوم أنَّ العشاء: من زوال الشمس إلى طلوع الفجر)، وبما في «القاموس» : (والعشاء: أول الظلام، أو من المغرب إلى العتمة، أو من زوال الشمس إلى طلوع الفجر)، ثم قال: (وبذلك تعلم صحة معنى هذه الرواية، فلا ينبغي التوهيم، وكلام الكرماني يومئ إلى التصحيح؛ فتأمل) انتهى.
قلت: وكلامه فاسد الاعتبار، فإنَّ عبارة «الصِّحاح» هي كلام الجوهري، وقد أجاب عنه إمام الشَّارحين بأنَّ ما ذكره هو أصل الوضع، وفي الاستعمال يطلق على ما بعد الزوال إلى المغرب، وآخر عبارة الجوهري في «الصِّحاح» الذي هي (وزعم قوم..) إلى آخره: هو الصَّواب في أصل الوضع والاستعمال، ومثله عبارة «القاموس»، على أنَّ أبا بكر الرازي قد اعترض على الجوهري في «مختصره» حيث قال: (قلت: وقال الأزهري: العشي: ما بين الشمس إلى غروبها، وصلاتا العشي: هما الظُّهر والعصر، فإذا غابت الشمس؛ فهو العشاء) انتهى، وكذلك الزبيدي والمنلا علي القاري اعترضا على صاحب «القاموس» واعتمدا على ما ذكره الأزهري؛ فليحفظ.
ولا يخفى عليك أنَّ ما ذكره إمام الشَّارحين من رواية البخاري، وكذا رواية مسلم، وكذلك رواية أبي داود والطَّحاوي؛ يدل صريحًا أنَّ المراد بصلاتي العشاء: هما الظُّهر والعصر، فإنَّ الأحاديث وكذا الروايات تفسر بعضها بعضًا، فثبت بذلك أنَّ رواية المستملي والحموي وَهَمٌ ألبتة غير صحيحة المعنى، والكرماني لم يتعرض لها، بل سكت عنها، وسكوته يدل على عدم رضاه بها، لا أنَّه يومئ إلى التصحيح كما زعمه، ويحتمل سكوته اشتباهه بالمعنى، وكأنَّه لم يقف على كلام الأزهري، ولا على كلام الرازي، والقاري، والزبيدي، ولو وقف على كلامهم؛ لم يتوقف بأنها وهم؛ فافهم، ولا تكن من الغافلين.
(قال ابن سيرين) هو محمَّد التَّابعي المشهور بالتعبير المذكور (قد سماها) أي: إحدى صلاتي العشي (أبو هريرة) أي: لنا، (ولكن نسيت) أي: غفلت عنها (أنا)؛ أي: دون أصحابي، والمراد: أنَّه نسي تعيينها، وقد سماها في رواية «مسلم» : أنَّها العصر، وفي رواية أخرى (١) لمسلم: أنَّها الظُّهر، وفي رواية أبي داود والطَّحاوي: أنَّها الظُّهر أوالعصر على الشك، كما أوضحه إمام الشَّارحين فيما ذكرناه عنه آنفًا؛ فافهم، (قال)؛ أي: أبو هريرة: (فصلى بنا)؛ أي: معشر الصَّحابة؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في مسجده ركعتين من الظُّهر أو العصر، (ثم سلم)؛ أي: من صلاته ساهيًا أنَّه أتمها، فهو في الصلاة حكمًا ما دام في المسجد ما لم يأت بمناف، (فقام) عليه السَّلام (إلى خشبة معروضة) أي: موضوعة بالعرض أو مطروحة (في المسجد)؛ أي: في ناحية منه، واللَّام فيه للعهد، وهو مسجده عليه السَّلام (فاتكأ)؛ بالهمز في آخره؛ أي: اعتمد (عليها) أي: على تلك الخشبة (كأنَّه غضبان)؛ بمعجمتين، ولعله رأى من بعض أصحابه شيئًا فأنكره فغضب؛ لأنَّه كان يغضب لله، ويرضى لله، لا يفعل ولا يقر إلا على الذي أوحي إليه من ربه عز وجل.
وفي حديث عمران بن حصين: (أنه عليه السَّلام دخل منزله)، ولا يجوز لأحد أن ينصرف عن القبلة، ويمشي وقد بقي عليه شيء من صلاته.
وأجيب: بأنه فعل ذلك وهو لا يرى أنَّه في الصلاة، لا يقال: إنَّه يلزم عليه أنَّه لو باع أو أكل وهو لا يرى أنَّه في الصلاة أنَّه لا يخرجه ذلك منها؛ لأنَّا نقول: هذا كله منسوخ، فلا يعمل به اليوم، انتهى.
قلت: والمقرر في الفروع: أنَّ السَّلام سهوًا لا يقطع الصلاة، فهو عليه السَّلام سلم ساهيًا أنَّه أتمها، ودخوله منزله لا ينافي ذلك؛ لأنَّ منزله -وهي حجرته- داخل المسجد، والساهي لا تقطع صلاته ما لم يخرج من المسجد، فهو لم يخرج منه فهو في الصلاة حكمًا، والانصراف عن القبلة إنَّما يكون قاطعًا لها إذا كان يصلِّي في الصحراء، أمَّا المسجد؛ فلا يقطعها ذلك بل بالخروج منه، وبهذا يعلم الجواب عما ذكر؛ فليحفظ.
(ووضع يده اليمنى على اليسرى) ولأبي الوقت والأصيلي: (على يده اليسرى) (وشبَّك) بتشديد الموحَّدة (بين أصابعه)؛ أي: أدخل الأصابع بعضها بين بعض
(١) في الأصل: (آخر)، ولعل المثبت هو الصواب.