للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

للمشقة.

وأجيب: بأنَّا لا نسلِّم ذلك، ولئن سلَّمناه في الوضوء؛ لا نسلِّم ذلك في الغسل.

فإن قيل: لا يلزم من عدم جمعه منع الطهارة به، ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والتبرد.

قلت: إنَّما تركوا جمعه للشرب وغيره؛ للاستقذار، فإن النفوس تعافه للعادة، وإن كان طاهرًا، فالظاهر: أنَّ علة الطهارة عموم البلوى، يدل لذلك ما في «الفتاوى الولوالجية» : ولمَّا كان دليل النجاسة قويًّا؛ كان هو المختار، إلا أنَّ البلوى عمت في الماء المستعمل في الحدث الأصغر، فأفتى العلماء بالطهارة؛ للضرورة، وذكر نحوه في «الهداية» وغيرها؛ فافهم.

وقال الإمام زفر: (إن كان مستعمِله طاهرًا؛ فهو طاهر وطهور، وإن كان محدثًا؛ فهو طاهر غير طهور).

وقال مالك والشافعي في القديم ورواية عن أحمد إلى أنَّه طاهر وطهور، وهو قول النخعي، والحسن البصري، والزهري؛ لوصف الماء بالطهور في قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: ٤٨]، المقتضي تكرار الطهارة؛ كـ (ضَرُوب) لمن يتكرر منه الضرب.

وأجيب: بأن تكرار الطهارة حاصل بما يتردد على العضو دون المنفصل عنه؛ جمعًا بين الدليلين، أو أنه يطهر الحدث ثم يطهر الخبث، فالتكرار من هذا الوجه لا لما ذكروه؛ لأنَّه غير مراد.

وقال ابن بطال: (وأجمعوا على أن الإنسان غير مأخوذ عليه بما يرتش عليه الماء المستعمل، فلو كان نجسًا؛ لوجب التحرز عنه، فهو طاهر، وما لم يتغير طعمه، ولا لونه، ولا ريحه؛ لم يؤثر في الاستعمال في عينه، فلم يؤثر في حكمه، وهو طاهر لاقى طاهرًا، فجاز أن يسقط به الفرض مرة أخرى؛ كالماء الذي غسل به ثوب طاهر، فهو طاهر مطهر) انتهى.

قلت: وفيه نظر، فإن الذي يرتش عليه إنَّما جُعِل عفوًا للضرورة؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه قطعًا، وهو لا يدلُّ على طهارته، وقوله: (ما لم يتغير...) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّه قد حصل له الكلال، والضعف، واجتماع الأوساخ فيه، والأدران التي في البدن، وقوله: (كالماء الذي غسل به ثوب...) إلخ؛ ممنوع؛ لأنَّه قياس مع الفارق، والفرق: أنَّ الثوب الطاهر خالي عن الأوساخ، فإذا غسل به لا تأثير له، بخلاف الماء المستعمل؛ فإنه قد أثر فيه البدن من ارتفاع الحدث، فإنه ماء الذنوب، وقد رأى الإمام الأعظم جماعة يتوضؤون، فينزل الماء منهم بعضه أسود وبعضه أحمر وبعضه كدر، ولا يدرك ذلك إلا أصحاب القلوب السليمة التي نوَّرها الله بالكشف الإلهي، وقد نزع الله تعالى من الماء البركة؛ بسبب اختلاطه بذنوب الناس؛ كالخمر، فإنه مباح في العهد الأول، وفيه النفع، ولمَّا حرم في شريعتنا؛ نزعت منه ذلك النفع، وبقي نجسًا مضرًّا، وستأتي بقية المباحث في ذلك.

(وأمر جرير بن عبد الله أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه) فيما وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما عنه، ولفظ الدارقطني: «كان يقول لأهله: توضؤوا من آلة أدخل فيه سواكي»، وفي بعض طرقه: كان جرير يستاك، ويغمس رأس سواكه في الماء، ثم يقول لأهله: (توضؤوا بفضله) لا يرى به بأسًا، وهذه الرواية مبينة للمراد.

قال في «عمدة القاري» : (هذا الأثر غير مطابق للترجمة أصلًا، وأن الترجمة في استعمال الماء الذي يَفْضُلُ من المتوضئ، والأثر: هو الوضوء بفضل السواك، ثم فضل السواك إن كان ما ذكره ابن التين وغيره: من أنَّه هو الماء الذي يُنْقَع فيه السواك، فلا مناسبة له للترجمة؛ لأنَّه ليس بفضل الوضوء، وإن كان المراد: أنه الماء الذي يغمس فيه المتوضئ سواكه بعد الاستياك؛ فذلك لا يناسب الترجمة، وقال بعضهم -أي: ابن حجر-: أراد المؤلف أن هذا الصنيع لا يغير الماء، فلا يمنع التطهر به، قلت: من له أدنى ذوق من الكلام لا يقول هذا الوجه في تطابق الأثر للترجمة).

أي: لأنَّ تغير الماء هو معنًى آخر خارج عما نحن بصدده، ومراد المؤلف: التوضؤ بما يَفْضُلُ عن المتوضئ الآخر، فلا وجه لهذا الكلام هنا.

ثم قال في «عمدة القاري» : (وقال ابن المنير: إن قيل: ترجم على استعمال فضل الوضوء، ثم ذكر حديث السواك والمجة، فما وجهه؟ قلت: مقصوده: الرد على من زعم أنَّ الماء المستعمل في الوضوء لا يُتطَهر به، قلت: هذا الكلام أبعد من كلام هذا القائل؛ فأي دليل دلَّ على أن الماء في خبر السواك والمجة فضل الوضوء؟ وليس فضل الوضوء إلا الماء الذي يَفْضُلُعن وضوء المتوضئ، فإن كان لفظ «فضل الوضوء» عربيًّا؛ فهذا معناه، وإن كان غير عربي؛ فلا تعلق له.

وزعم الكرماني فقال: وفضل السواك: هو الماء الذي ينقع فيه السواك ليترطب ويلين، وسواكهم الأراك.

قلت: بيَّنت لك أنَّ هذا كلامٌ واهٍ، وأنَّ فضل السواك لا يقال له: فضل الوضوء، وهذا لا ينكره إلا معاند ومكابر).

قال: (ويمكن أن يقال: بالجر الثقيل أنَّ المراد من فضل السواك: هو الماء الذي في الظرف، والمتوضئ يتوضأ منه، وبعد فراغه من تسوكه عقيب فراغه من المضمضة يرمى السواك الملوث بالماء المستعمل فيه) انتهى.

وقد أجاب بهذا الجواب القسطلاني ونسبه لنفسه لكونه في غاية التحقيق للمناسبة والمطابقة للترجمة.

قال العجلوني متعصبًا لابن حجروقد زاد عليه في الطنبور نغمة: (كلام بعضهم صحيح؛ لقياسه ماء الوضوء، حيث لم يتغير على الذي وضع فيه سواك ليترطب به ولم يتغير، وهو قياس صحيح؛ لوجود الجامع بينهما؛ وهو عدم التغيير) انتهى.

قلت: وهذا القياس فاسد، فإن السواك الذي يستاك به إذا وضع في الماء لا ريب أنه يتغير من الذي عليه من أوساخ الفم والأسنان، ولا يقال له: إنه فضل الوضوء قطعًا، فأين الجامع بينهما؟ على أنه أوَّلًا يصحح كلام ابن حجر، ثم يبين القياس؟ ولا ريب أن كلام ابن حجر غير ظاهر المعنى؛ لأنَّه في وادٍ والمؤلف في وادٍ آخر، والعجلوني مثله كمثل من وضع قطنًا على أرض وجاء آخر يبني عليه بالحجارة، فلا ريب أنَّ ما قاله الإمام بدر الدين العيني هو الصواب، وإليه المرجع والمآب.

[حديث أبي جحيفة في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم]

١٨٧ - وبه قال: (حدثنا آدم)؛ هو ابن أبي إياس؛ بكسر الهمزة (قال: حدثنا شعبة)؛ أي: ابن الحجاج (قال: حدثنا الحَكَم)؛ بفتحتين؛ أي: ابن عُتَيْبَة -بضم العين المهملة، وفتح المثناة الفوقية، وسكون التحتية، وفتح الموحدة- فهو تابعي صغير، وليس له سماع من أحد من الصحابة إلا أبا جحيفة، وقيل: روى عن ابن أبي أوفى أيضًا، كما في «عمدة القاري» (قال: سمعت أبا جُحَيْفة)؛ بضم الجيم، وفتح الحاء المهملة، وسكون التحتية، بعدها فاء، واسمه: وهب بن عبد الله الثقفي الكوفي السُّوائي -بضم المهملة- المتوفى سنة أربع وسبعين (يقول)؛ جملة محلها النصب على أنها مفعول ثان لـ (سمعت) على قول من يقول: إن السماع يستدعي مفعولين، والأظهر: أنها حال، كذا في «عمدة القاري» : (خرج علينا النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله) (صلى الله عليه وسلم) (من قُبَّةٍ حمراءَ من أدم بالأبطح بمكة)، كما صرح به في رواية، (بالهاجرة)؛ أي: في الهاجرة، فالباء فيه ظرفية بمعنى: (في)، وهي نصف النهار عند زوال الشمس مع الظهر، أو عند زوال الشمس إلى العصر، وقيل في كل ذلك: إنه شدة الحر، وفي «الأنواء» : (الهاجرة: بالصيف قبل الظهيرة بقليل أو بعدها بقليل، والهويجرة: قبل العصر بقليل، وسميت: الهاجرة؛ لهروب كل شيء منها)، وفي «المغيث» : الهاجرة؛ بمعنى: المهجورة؛ لأنَّ السير هجر فيها كـ {مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: ٦]؛ بمعنى: مدفوق، وأما قول النبي الأعظم عليه السلام: «والمُهَجِّر كالمُهْدِي بدنة»؛ فالمراد: التبكير إلى كلِّ الصلوات، وعن الخليل: (التهجير إلى الجمعة: التبكير، وهي لغة حجازية)، وتمامه في «عمدة القاري».

(فأُتِي)؛ بضم الهمزة وكسر التاء (بوَضوء)؛ بفتح الواو: الماء الذي يتوضأ منه، (فتوضأ)؛ أي: من ذلك الماء، (فجعل الناس) أي: الصحابة (يأخذون) في محل

<<  <   >  >>