للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بأن يحمل الغسل على الندب، والترك على الجواز، ورده صاحب «عمدة القاري»، فقال: قلت: (كيف يكون تركه للجواز إذا كان بيده قذر، وإن لم يكن؛ فلا يضر، فلم يحصل التوفيق بينهما بما ذكره هذا القائل، وهذا الأثر من أقوى الدلائل لمن ذهب من الأئمَّة الحنفية إلى نجاسة الماء المستعمل؛ فافهم) انتهى.

وزعم العجلوني على الأول أنَّه ليس في قول ابن حجر: (أو غسل للندب، وترك للجواز) ما يدل على أنَّ القذر لو وجد؛ كان نجسًا، ولو لم يوجد قذر؛ جاز أن يغسلهما لأمر آخر لمزيد النظافة.

قلت: وهو ممنوع ومردود، فإنَّ ما زعمه ابن حجر من أنَّه غسل للندب وترك للجواز يدل على أنَّه كان بيده قذر، والقذر نجس وهو ينجس الماء، وهو صريح لفظ الأثر، فإنَّ لفظه: (فما بقي منه نجس)، وإنَّما ينجس الماء القذر النجس، وإن لم يوجد على يده قذر؛ فلا يضر الغسل، وهذا ظاهر من لفظ الأثر صريحًا، فقول العجلوني: (ليس...) إلخ مردود على أنَّ قوله: (ولو لم يوجد...) إلخ مردود؛ لأنَّه إمَّا أن يظن أو يتيقن، فإن أراد الأول؛ فليس بشيء؛ لأنَّه وهم، والأحكام لا تبنى عليه، وإن كان الثاني؛ فإنَّه يرجع إلى الأول.

وقوله: (لأمر آخر...) إلخ مردود؛ فإنَّ الغسل لمزيد النظافة لا يكون الماء الباقي نجسًا، وقد صرح في الأثر (باب ما بقي منه نجس)، وعلى كلٍّ؛ فلم يوجد التوفيق، فكيف قال العجلوني ما قال؟ فليحفظ.

وزعم العجلوني على الثاني، فقال بعد ثبوته -أي: الأثر-: علمت الجواب عنه؛ أي: وهو أنَّه محمول على أنَّه كان في يده قذر؛ كما قدمناه.

قلت: وهذا تعصب وتعنت، فإنَّ الأثر ثابت لا محالة؛ لأنَّه رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن محمَّد بن فضيل، عن أبي سنان ضرار، عن محارب، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وهو يدل على أنَّ الماء المستعمل نجس، والجواب المذكور ممنوع؛ لأنَّه تأويل غير صحيح، فأي دليل جاء على أنَّه كان في يده قذر؟ وما هي إلا دعوى باطلة، مع أنَّ الأصل عدم القذر ومدعيها مطالب بالدليل، ولم يوجد هذا، وقد روى عبد الرزاق في «مصنفه» عن ابن عمر: (أنَّه كان يغسل يده قبل التطهُّر)، وهو عام يشمل الجنابة والحدث الأصغر، وهو أيضًا يدل على أنَّ الماء المستعمل نجس، فاحتمال وجود القذر عليها بعيد جدًّا؛ لأنَّ الأصل بقاء ما كان على ما كان؛ فليحفظ.

وقال في «عمدة القاري» : (وفي الأثر المذكور جواز إدخال الجنب يده في إناء الماء قبل أن يغسلها إذا لم يكن عليها نجاسة حقيقية، وقال الشَّعبي: «كان الصحابة يدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها، وهم جنب، وكذا النساء ولا يفسد ذلك بعضهم على بعض»، ورُوِيَ نحوه عن ابن سيرين، وعطاء، وسالم، وسعد بن أبي وقاص، وسَعِيْد بن جبير، وابن المسيب) انتهى.

قلت: والظاهر: أنَّ إدخال أيديهم كانت لأجل الاغتراف لا مطلقًا، كما زعمه العجلوني، فإنَّ الآثار التي عن ابن عمر والبَرَاء صريحة في أنَّ الإدخال إنَّما كان لأجل الاغتراف، وهي أقوى وأرجح من نقل الشعبي؛ فليحفظ.

(ولم ير) من الرؤية، وهي الاعتقاد (ابن عمر) : هو عبد الله بن عمر بن الخطاب (وابن عباس) : هو عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (بأسًا) أي: مشقة (بما ينتضح)؛ أي: يرتش (من غُسل الجنابة)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: حال الاغتسال.

قال في «عمدة القاري» : (وجه مطابقة هذا الأثر بالتعسف يأتي، وهو من حيث إنَّ الماء الذي يدخل الجنب يده فيه لا ينجسه إذا كانت طاهرة، فكذلك انتشار الماء الذي يغتسل به الجنب في إنائه؛ لأنَّ في تنجسه مشقة؛ أي: فإنَّه مما يشق الاحتراز عنه، فكان معفوًّا عنه، ألا ترى كيف قال الحسن البصري: ومن يملك انتشار الماء؛ فإنَّا لنرجو من رحمة الله ما هو أوسع من هذا.

أمَّا أثر ابن عمر؛ فوصله عبد الرزاق بمعناه.

وأمَّا أثر ابن عباس؛ فرواه ابن أبي شيبة عن حفص، عن العلاء بن المسيب، عن حمَّاد، عن إبراهيم، عن ابن عباس في الرجل يغتسل من الجنابة، فينتضح في إنائه من غسله، فقال: (لا بأس به)، وهو منقطع فيما بين إبراهيم وابن عباس، روي مثله عن أبي هريرة، وابن سيرين، والنخعي، والحسن فيما حكاه ابن بطال عنهم، ويقرب من ذلك ما روي عن الإمام أبي يوسف رحمة الله عليه فيمن كان يصلي فانتضح عليه البول أكثر من قدر الدرهم؛ فإنَّه لا يفسد صلاته، بل ينصرف ويغسل ذلك ويبني على صلاته) انتهى كلام «عمدة القاري».

قلت: وفي هذا الأثر أنَّ ما يصيب الإنسان من الرشاش من غُسله حال الجنابة معفوٌّ عنه؛ لأنَّه لا يمكن الاحتراز عنه، وفيه: دليل لمن ذهب من الأئمَّة الحنفية إلى أنَّ الماء المستعمل نجس؛ لأنَّه إنَّما عفي عن الرشاش؛ لعدم الاحتراز عنه، أمَّا الذي أمكن الاحتراز عنه؛ فليس هو من المعفوِّ عنه، فيكون نجسًا، على أنَّ قوله: (ولم ير بأسًا) يفيد أنَّ الاحتراز عن الرشاش أحسن وأولى؛ لأنَّه إنَّما عفي عنه؛ للضرورة، وإذا لم يكن ضرورة؛ فلا عفوًا، وهذا ظاهر.

ونقل ابن التين عن الحسن أنَّه قال: (إن كانت جنابته من وطء، ويده نظيفة؛ فلا بأس بها، وإن كانت من احتلام هراقه ليلًا؛ فإنَّه لا يدري أين باتت يده، فيصيبه، فأفاد بقوله: «فلا بأس أنَّ المعفو عنه الاغتراف للضرورة الداعية لتناول الماء»؛ يعني: وإذا لم يكن ضرورة؛ فلا يعفى عنه، فظاهره أنَّه ينجس الماء).

وأفاد بقوله: (وإن كانت من احتلام...) إلخ إلى أنَّه ينجس الماء، وبه صرح ابن حبيب، فقال: من أدخل يده في وضوئه قبل أن يغسلها ساهيًا، أو عامدًا؛ فلا شيء عليه، إلا أن يكون بات جنبًا؛ فلا يدري ما أصاب يده من جنابته، فإن أدخلها قبل الغسل؛ نجس الماء.

فإنَّ قوله: (فلا شيء عليه)؛ يعني: فيما إذا كان لأجل الاغتراف.

وقوله: (إلا أن يكون...) إلخ ظاهره يدل على نجاسة المستعمل، وفيه: دليل ظاهر على نجاسة المني؛ حيث لا يصيب الإنسان من جنابته إلا المني، ورطوبة الفرج، وهذا ظاهر، وعلى كل حال؛ فهذه الآثار تدل على نجاسة المستعمل، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم.

[حديث: كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف]

٢٦١ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن مسَلَمَة)؛ بفتح الميم الأولى والثانية؛ هو القعنبي، ولذا زاد مسلم: (ابن قعنب) (قال: حدثنا) وفي رواية: (أخبرنا) (أَفْلَح)؛ بفتح الهمزة واللام، وسكون الفاء، آخره حاء مهملة (بن حُميد)؛ بضمِّ الحاء المهملة، الأنصاري المدني، وقد وقع في نسختنا الصحيحة هكذا، (أفلح بن حميد)؛ بذكر أبيه (حميد)، كما وقع في رواية مسلم، وفي أكثر النسخ: (أفلح) غير منسوب، وهو ابن حميد بلا خلاف، وليس في البخاري غيره، كذا قاله صاحب «عمدة القاري»، (عن القاسم بن محمَّد) : هو ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما أجمعين، (عن عائشة) : الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما، (قالت: كنت أغتسل) أي: من الجنابة (أنا والنبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم)؛ بالرفع عطف على الضمير المرفوع في (كنت)، وأبرز الضمير؛ ليصح العطف عليه، ويجوز فيه النصب على أنَّه مفعول معه، فتكون الواو للمصاحبة، كذا في «عمدة القاري» (من إناء واحد تختلف أيدينا فيه)؛ أي: في الإناء، والظاهر أنَّه الفرق، وهو صاعان، كما قدمنا، والجملة محلها النصب؛ لأنَّها حال من قوله: (من إناء واحد)، والجملة بعد المعرفة حال، وبعد النكرة صفة، والإناء هنا موصوف، ومعنى اختلاف الأيدي في الإناء؛ يعني: الإدخال فيه، والإخراج منه.

وفي رواية مسلم في آخره: (من الجنابة)؛ أي: لأجل الجنابة.

وفي رواية أبي عَوانة وابن حبان بعد قوله: (تختلف أيدينا فيه: وتلتقي).

وفي رواية الإسماعيلي من طريق إسحاق بن سليمان عن أفلح: (تختلف فيه أيدينا؛ يعني: حتى تلقتي).

وفي رواية البيهقي من طريقه: (تختلف أيدينا فيه؛ يعني: وتلتقي)، وفيه إشعار بأنَّ قوله: (وتلتقي) مدرج.

وفي رواية أخرى لمسلم من طريق معاذ عن عائشة: (فيبادرني حتى أقول: دع لي).

وفي رواية النسائي وأبي ذر: (حتى يقول: دع لي)، ومما يستنبط منه: جواز اغتراف الجنب من الماء الذي في الإناء، وجواز

<<  <   >  >>