للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فاسد؛ لأنَّه لو كان مقصود المؤلف من إيراد هذا الحديث تأكيد مذهبه في أن الماء لا ينجس بمجرد الملاقاة؛ لكان أورد حديثًا ظاهرَ المناسبة دالًّا على مذهبه، ولما كان يعتمد على حديث المناسبة فيه غير ظاهرة، بل هي خفية، وما هذا إلا تخمين ووهم مع أن المؤلف ليس مراده هنا بيان مذهبه ولا بيان الأحكام، بل مراده بيان الأحاديث الواردة التي استنبط منها العلماء الأحكام، فإن ظهر له منها حكم؛ ترجم به وصدره، وذكر الأحاديث التي أخذ منها العلماء الأحكام، ومع هذا فقد يذكر حديثًا يكون فيه حكم غير مطابق لما ترجم له في الظاهر، والحال أنه له حكم من الأحكام على أنَّ المؤلف قد أنكر حديث القلتين، وضعفه أشياخه من حيث اضطرابه سندًا ومتنًا وغير ذلك، وأنه لا يعتمد عليه كما بسطناه فيما قدمناه.

وأجاب ابن بطال: (بأنه إنَّما ذكر البخاري هذا الحديث في نجاسة الماء؛ لأنَّه لم يجد حديثًا صحيح السند في الماء، فاستدل على حكم المائع بحكم الدم المائع، وهو المعنى الجامع بينهما).

وردَّه في «عمدة القاري» : (بأنَّه وجه غير حسن لا يخفى) انتهى.

قلت: فإن المؤلف قد ذكر أحاديث صحيحة السند في الماء فيما سيأتي، وساقها في باب على حدة بأسانيد صحيحة.

فقوله: (لم يجد...) إلخ؛ ممنوع، وإن أراد بما ذكر حديث القلتين؛ فهو ظاهر؛ لأنَّه حديث ضعيف مضطرب من حيث السند والمتن لا اعتماد عليه.

وقوله: (فاستدل على حكم...) إلخ؛ هذا ممنوع أيضًا، فأي جامع بين المائع والدم، فإن الفرق بينهما ظاهر؟! وأي دليل على المعنى الجامع بينهما؟! وما هو إلا احتمال بعيد، وتخمين غير سديد؛ فافهم.

وأجاب ابن رشيد: (بأن مراد المؤلف أن انتقال الدم إلى الرائحة الطيبة هو الذي نقله من حالة الذم إلى حالة المدح، فحصل من هذا تغليب وصف واحد، وهو الرائحة على وصفين؛ وهما الطعم واللون، فيُسْتَنْبَطُ منه: أنه متى تغير أحد الأوصاف الثلاثة بصلاح أو فساد؛ تبعه الوصفان الباقيان) انتهى، وبمثله أجاب ابن المنيِّر والقشيري.

وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّ هذا ظاهر الفساد؛ لأنَّه لم يلزم منه إذا تغير وصف واحد بالنَّجاسة ألَّا يؤثر حتى يوجد الوصفان الآخران، وليس كذلك، فإن هذا لم ينقل إلا عن ربيعة، وكل هؤلاء الأوجه خارجون عن الدائرة، ولم يذكر واحد منهم وجهًا صحيحًا ظاهرًا لإيراد هذا الحديث في هذا الباب؛ لأنَّ هذا الحديث في بيان فضل الشهيد على الحكم المذكور فيه من أمور الآخرة، والحكم في الماء بالطهارة والنَّجاسة من أمور الدنيا، وكيف يلتئم هذا بذاك، ورعاية المناسبة في مثل هذه الأشياء بأدنى وجه يلمح فيه كافية، والتكلفات بالوجوه البعيدة غير مستملحة، واعتمد الجواب الذي صدرنا به السؤال في أول البحث، وهو الظاهر من المناسبة لهذا الحديث، وكل هذه الأوجه التي (١) قالها هؤلاء الشارحون خارجة عن دائرة المناسبة، فالذي قاله صاحب «عمدة القاري» هو الوجه الصواب، وعليه الاعتماد؛ لحصول وجهه بالنظر الصحيح، والقول الفصيح الذي لا غبار عليه، فلله در هذا المؤلف ما أغزر علمه وأوفر الفهم والذكاء! رحمه الله، ورضي عنه، والله تعالى أعلم.

(٦٨) [باب الماء الدائم]

(باب الماء الدائم)؛ بالجر صفة للمضاف إليه؛ أي: هذا باب في بيان حكم الماء الراكد؛ وهو الذي لا يجري من حيث البول فيه، والتوضؤ، والاغتسال منه، وفي رواية الأصيلي: (باب لا تبولوا في الماء الراكد؛ وهو الذي لا يجري)، وفي بعضها: (باب البول في الماء الدائم الذي لا يجري)، وتفسير (الدائم) : هو الذي لا يجري، وذكر قوله بعد ذلك: (الذي لا يجري) يكون تأكيدًا لمعناه، وصفة موضحة له، وقيل: للاحتراز عن راكد لا يجري بعضه؛ كالبرك ونحوها.

وردَّه في «عمدة القاري» قال: (قلت: فيه تعسف، والألف واللام في «الماء» إما لبيان حقيقة الجنس، أو للعهد الذهني، وهو الماء الذي يريد المكلف التوضؤ به، والاغتسال منه) انتهى.

[حديث: نحن الآخرون السابقون]

٢٣٨ - وبه قال: (حدثنا أبو اليَمَان)؛ بفتح التحتية، وتخفيف الميم: هو الحَكَم -بفتحتين- بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي جمرة (قال: حدثنا) : وفي رواية: (أخبرنا) (أبو الزِّناد)؛ بكسر الزاي، وتخفيف النُّون: عبد الله بن ذكوان: (أنَّ عبد الرحمن بن هُرْمُزَ)؛ بضمِّ الهاء، وسكون الرَّاء، وضم الميم، والمنع من الصرف؛ لأنَّه أعجمي، ففيه العلمية والعجمة (الأعرج) صفته (حدَّثه)؛ أي: حدَّث أبا الزِّناد: (أنَّه سمع أبا هريرة) عبد الرحمن بن صخر رضي الله تعالى عنه: (أنَّه سمع) : وللأصيلي: (قال: سمعت)، ولابن عساكر: (أنَّه يقول: سمعت) (رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يقول) جملة محلها نصب على الحال: (نحن الآخِرون)؛ بكسر الخاء المعجمة، جمع الآخر بمعنى المتأخر، يذكر في مقابلة الأول، وبفتحها جمع لآخر أفعل التفضيل، وهذا المعنى أعم من الأول، والرواية بالكسر فقط؛ ومعناه: نحن المتأخرون في الدنيا من حيث الوجود، فإنَّا آخر الأمم وجودًا، ولا توجد بعدنا أمة، بل نحن الآخرون (السابقون)؛ أي: المتقدمون في الآخرة من حيث البعث، والحساب، ودخول الجنة.

قال في «عمدة القاري» : والحكمة في تقديم هذا الحديث فقد اختلفوا فيها؛ فقال ابن بطال: يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبيِّ عليه السَّلام، وما بعده في نسق واحد، فحدَّث بهما جميعًا، ويحتمل أن يكون همَّام فعل ذلك؛ لأنَّه سمعهما من أبي هريرة، وإلا؛ فليس في الحديث مناسبة للترجمة، قيل: في الاحتمال الأول نظر؛ لتعذره، ولأنَّه ما بلغنا أن النبيَّ عليه السَّلام حفظ عنه أحد في مجلس واحد مقدار هذه النسخة صحيحًا إلا أن يكون من الوصايا الغير الصحيحة، ولا يقرب من الصحيح، وقال ابن المنير: ما حاصله: أن همَّامًا راويه روى جملة أحاديث عن أبي هريرة استفتحها له أبو هريرة بحديث: «نحن الآخِرون»، فصار همام كلما حدث عن أبي هريرة؛ ذكر الجملة من أولها، وتبعه البخاري في ذلك، وذلك في مواضع أخرى في كتابه في (الجهاد)، و (المغازي)، و (الأيمان والنذور)، و (قصص الأنبياء) عليهم السَّلام، و (الاعتصام) ذكر في أوائلها كلها: (نحن الآخرون السابقون)، وقال ابن المنير: هو حديث واحد، فإذا كان واحدًا؛ تكون المطابقة في آخر الحديث، وفيه نظر؛ لأنَّه لو كان واحدًا؛ لما فصله البخاري بقوله: (وبإسناده)، وأيضًا فقوله: (فنحن الآخرون) طرف من حديث مشهور في ذكر يوم الجمعة، ولو راعى البخاري ما ادعاه؛ لساق المتن بتمامه، ويقال: الحكمة في هذا أن حديث: (نحن الآخرون السابقون) أول حديث في صحيفة همَّام عن أبي هريرة، كان همَّام إذا روى الصحيفة؛ استفتح بذكره، ثم سرد (٢) الأحاديث، فوافقه البخاري ههنا، ويقال: الحكمة فيه: أن من عادة المحدثين ذكر الحديث جملة؛ لتضمنه موضع الدلالة المطلوبة، ولا يكون ما فيه مقصودًا بالاستدلال، وإنما جاء تبعًا لموضع الدليل، وفيه نظر لا يخفى، وزعم الكرماني ناقلًا عن بعض أهل العصر مناسبة صدر الحديث لآخره: أن هذه الأمة آخر من يُدْفَنُ من الأمم، وأول من يُخْرَجُ منها؛ لأنَّ الأرض لهم وعاء، والوعاء آخر ما يوضع فيه، وأول ما يخرج منه، وكذلك الماء الراكد آخر ما يقع فيه من البول أول ما يصادف أعضاء المتطهر منه، فينبغي أن يجتنب ذلك ولا يفعله، قلت: فيه جر الثقيل، ولا يشفي الغليل، انتهى كلام صاحب «عمدة القاري».

قلت: وقيل: ووجهه: أن بني إسرائيل وإن سبقوا في الزمان؛ لكنَّ هذه الأمة سبقتهم


(١) في الأصل: (الذي)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (سود)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>