للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

باجتناب الماء الراكد إذا وقع فيه البول، فلعلهم كانوا لا يجتنبون.

وردَّ بأنَّ بني إسرائيل كانوا أشدَّ مبالغة في اجتناب النَّجاسة، فكيف يظن بهم التساهل في هذا؟ ألا ترى أن أحدهم إذا أصاب ثوبه نجاسة؛ قرضه بالمقراض؛ تحرُّزًا عن النَّجاسة، وقيل: الصواب أن البخاري يذكر في الغالب الشيء كما سمعه جملة؛ لتضمنه موضع الدلالة وإن لم يكن باقيه مقصودًا، وليس غرضه منها إلا الحديث الأخير، لكنَّه أداهما على الوجه الذي سمعها.

قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه لا يلزم من ذكره كما سمعه أن يذكر الجملة المشتملة على الحديثين في سياق واحد، ويكون غرضه منها أحدهما، بل يجوز أن يَذْكُرَ الحديث الواحد المتضمن للدلالة فقط ويَتْرُكَ غيره، ونظير ذلك: ما ذكره في أول باب (النية)، فإنَّه ذكر قطعة من الحديث متضمنة لما ترجم له، وساقه بتمامه في موضع آخر؛ لبيان غرضه؛ فافهم.

والظاهر: أنَّ المؤلف ساق الحديث الأول بسنده، ثم أسند الثاني إلى شيخه، ولم يذكر سنده؛ للاختلاف في سنده وأشياخه من حيث تعدُّد طرقه، فإن الحديث الثاني قد ساقه الإمام الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي، وأخرجه من عشرة طرق، وكلها صحيحة كما ستقف عليها، ولأنَّ ذلك يفيد قوَّة على الحديث الأول على أنَّه قد اختلف أيضًا في لفظ متنه كما ستعلمه، فلهذا: المؤلف اقتصر على قوله: (وبإسناده) وساق الحديث الأول؛ فافهم.

٢٣٩ - (وبإسناده) : الضمير يرجع إلى الحديث؛ أي: حدثنا أبو اليمان بالإسناد المذكور، قال الحافظ أبو جعفر الطحاوي: حدَّثنا صالح بن عبد الرحمن بن عمرو بن الحارث الأنصاري، وعلي بن شيبة بن الصلَّت البغدادي قالا: حدَّثنا عبد الله بن يزيد المقري قال: سمعت ابن عوف يحدِّث عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة قال: (نهى -أو نهي- أن يبول في الماء الدائم -أي: الراكد - ثم يتوضأ منه، أو يغتسل فيه).

الطريق الثاني: حدثنا علي بن سَعِيْد بن نوح البغدادي قال: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال: حدثنا هشام بن حسَّان، عن محمَّد بن سيرين، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه»، وأخرج مسلم نحوه.

الطريق الثالث: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرني أنس بن عياض الليثي، عن الحارث بن أبي ذئاب- وهو رجل من الأزد- عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم، ثم يتوضأ منه أو يشرب»، وأخرجه البيهقي بنحوه إسنادًا ومتنًا.

الطريق الرابع: حدثنا يونس قال: أخبرني عبد الله بن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث: أن بكير بن عبد الله بن الأشبح حدَّثه: أن أبا السائب مولى هشام بن زهرة حدثه: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لا يَغْتَسِلُ أحدُكم في الماء الدائم وهو جنب»، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه» نحوه: (عن عبد الله بن مسلم، عن حرملة بن يحيى، عن عبد الله بن وهب...) إلى آخره.

الطريق الخامس: حدَّثنا ابن أبي داود قال: حدثنا سَعِيْد بن الحكم بن أبي مريم قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: حدثني أبي، عن موسى بن أبي عثمان، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل منه».

الطريق السادس والسابع: حدثنا حسن بن نصر البغدادي قال: حدثنا محمَّد بن يوسف الفريابي قال: حدثنا سفيان.

(ح) : وحدثنا فهد قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد؛ فذكر مثله.

الطريق الثامن: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي قال: حدثنا أسد بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن لهيعة قال: حدثنا عبد الرحمن الأعرج قال: سمعت أبا هريرة يقول عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل».

الطريق التاسع: حدَّثنا الربيع بن سليمان الجيزي قال: حدَّثنا أبو زرعة وهبة الله بن راشد قال: أخبرنا حيوَة بن شريح قال: سمعت ابن عجلان يحدِّث عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «لا يبولنَّ أحدكم في الماء الراكد، ولا يغتسل منه».

الطريق العاشر: حدَّثنا إبراهيم بن منقذ العضوي قال: حدثني إدريس بن يحيى قال: حدثنا عبد الله بن عياش، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم مثله غير أنه قال: «ولا يغتسل فيه جنب»، وتمامه في «عمدة القاري».

(قال) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا يبولَنَّ)؛ بفتح اللام، وبنون التأكيد الثقيلة، وفي رواية ابن ماجه: (لا يبول)؛ بغير نون التأكيد (أحدكم) : خطاب خاص المراد به العام (في الماء الدائم) : من دام الشيء يدوم ويدام، يقال: ديمًا ودوامًا وديمومة، قال ابن سيده: وأصله من الاستدارة؛ لأنَّ أصحاب الهندسة يقولون: إن الماء إذا كان بمكان؛ فإنه يكون مستديرًا في الشكل، ويقال: الدائم: الثابت الواقف الذي لا يجري، فقوله: (الذي لا يجري) إيضاح لمعناه، وتأكيد له، ولهذا لم يذكر هذا القيد في رواية مسلم عن جابر، ولا في بعض الروايات، وقيل: احترز به عن الماء الدائر وإن كان جاريًا من حيث الصورة، ساكن من حيث المعنى، وقيل: الدائم: الراكد، كما جاء في بعض الروايات، وفي «تاريخ نيسابور» : (الماء الراكد: الدائم)، وقيل: الدائم والراكد مقابلان للجاري، لكن الدائم: هو الذي له نبع، والراكد: لا نبع له، ويطلق الدائم أيضًا على الجاري؛ كالأنهار التي لا ينقطع ماؤها؛ لديمومة مائها واستمراره، لكنه غير مراد هنا، واحترز به عن الجاري كلًّا أو بعضًا؛ كالبرك التي يجري بعضها، وكالبحرات التي في ديارنا الشريفة الشامية، فإن الجاري إذا خالطه الشيء النجس؛ دفعه الجزء الثاني الذي يتلوه فيغلبه، فيصير في معنى المستهلَك، ويخلفه الطاهر الذي لم يخالطه النجس، فلا ينهى عنه نهي تحريم، بل تنزيه، وأما الراكد؛ فلا يدفع النجس عن نفسه إذا خالطه، بل يتداخله، فمهما أراد استعمال شيء منه؛ كان النجس فيه قائمًا، فالنهي فيه للتحريم، ولهذا قال العلماء: النهي عن البول في الماء يرجع إلى الأصول، فإن كان الماء جاريًا أو ما في حكمه؛ فالنهي للتنزيه، وإن كان راكدًا قليلًا؛ فالنهي للتحريم.

وزعم ابن الأنباري أن الدائم من الأضداد، يقال للساكن والدائر، انتهى.

قلت: لكنه للساكن حقيقة، وللدائر وغيره مجازًا، فهو من باب عموم المجاز بأن تجعل الحقيقة فردًا من أفراد ذلك المجاز، فالحمل في قوله: (الذي لا يجري) على التأكيد أو التوضيح أولى وأوجه؛ لأنَّ الذي لا يجري هو الساكن حقيقة؛ فليحفظ، لا يقال: لو لم يقل: (لا يجري)؛ لكان مجملًا؛ لأنَّا نقول: الدائم: هو الذي لا يجري حقيقة، فهو إيضاح لمعناه، وتأكيد له؛ لأنَّ الدائم هو الساكن الذي لا يجري، كما لا يخفى؛ فافهم، على أنه قد فسر النبيُّ الأعظم عليه السَّلام الدائم: بأنَّه هو الذي لا يجري، فلا يجوز العدول عن هذا التفسير، والدائم: يشمل القليل؛ كالبحرات التي في ديارنا، والكثير: وهو الذي لم يبلغ عشرًا في عشر، فإن النجس ينجِّسه وإن لم يتغير في الظاهر، لكنه متغير من حيث إنَّ النجس اختلط في أجزاء الماء، والله تعالى أعلم.

(ثم يغتسل فيه)؛ أي: أو يتوضأ؛ أي: في الدائم الذي لا يجري، وتفرد المؤلف بلفظ: (فيه) هنا،

<<  <   >  >>