للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

وفي رواية ابن عيينة عن أبي الزناد: (ثم يغتسل منه)؛ بكلمة (من)، وكل واحد من اللفظين يفيد حكمًا بالنص وحكمًا بالاستنباط، كذا في «عمدة القاري»، وذلك لأنَّ لفظة (فيه) تدل على منع الانغماس بالنص، وعلى منع التناول بالاستنباط، ولفظة: (منه)؛ بعكس ذلك، ويدل لهذا ما قدَّمنا عن أبي هريرة حيث قال: (يتناوله تناولًا)؛ أي: بإناء صغير أو بأصابعه مضمومة، كما سبق البحث فيه، قال في «عمدة القاري» : يجوز في (يغتسل) ثلاثة أوجه: الجزم: عطفًا على (لا يبولنَّ)؛ لأنَّه مجزوم الموضع بـ (لا) التي للنهي، ولكنه بني على الفتح؛ لتوكيده بالنُّون، والرفع: على تقدير: ثم هو يغتسل فيه، وهو المشهور في الرواية، والنصب: على إضمار (أن)، وإعطاء (ثم) حكم واو الجمع، ونظيره في الأوجه الثلاثة قوله تعالى: {ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ} [النساء: ١٠٠]، فإنه قرئ بالجزم للسبعة، والرفع والنصب على الشذوذ.

وزعم النووي أنَّه لا يجوز النصب؛ لأنَّه يقتضي أنَّ المنهيَّ عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقلْه أحدٌ، بل البول فيه منهيٌّ عنه سواء أراد الاغتسال فيه أو منه أم لا.

وردَّه في «عمدة القاري» بأنه أراد تشبيه (ثم) بـ (الواو) في جواز النصب بعدهما لا في اقتضاء الجمع، ولئن سلمنا ذلك؛ فلا يضرنا؛ إذ كون الجمع منهيًّا عنه يعلم من دليل آخر؛ كما في قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الحَقَّ} [البقرة: ٤٢] : على تقدير النصب، انتهى، ومثله كحديث مسلم مرفوعًا: (نهى النبيُّ عليه السَّلام عن البول في الماء الراكد)، وكحديثه عن أبي هريرة: «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»، وذكر مثله في «المغني»، وقال: إن إجراء (ثم) مجرى (الفاء) و (الواو) هو مذهب الكوفيين.

ومنع القرطبي النصب أيضًا فقال: إذ لا تُضْمَرُ (إن) بعد (ثم)، ولو أراد النهي؛ لقال: ثم لا يغتسل، فحينئذٍ يتساوى الأمران في النهي عنهما؛ لأنَّ المحل الذي توارد عليه شيء واحد، وهو الماء، قال: فعدوله عن ذلك يدلَّ على أنَّه لم يرد العطف، بل (فيه) على مآل الحال؛ والمعنى: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه، ويمتنع عليه استعماله، ومثَّله بقوله عليه السَّلام: «لا يضربنَّ أحدكم امرأته ضرب الأمة، ثم يضاجعها»، فإنه لم يروِه أحد بالجزم؛ لأنَّ المراد: النهي عن الضرب؛ لأنَّه يحتاج إليه في مثل حاله إلى مضاجعتها، فتمتنع لإساءته إليها، فلا يحصل له مقصوده، وتقديره: ثم هو يضاجعها، وفي حديث الباب: (ثم هو يغتسل منه).

وردَّ بأنَّه لا يلزم من تأكيد النهي ألا يُعْطَفَ عليه نهيٌ آخر غير مؤكد؛ لاحتمال أن يكون للتأكيد في أحدهما معنًى ليس للآخر، وهذا ظاهر؛ فافهم.

فالحاصل: أنَّه يجوز في (يغتسل) ثلاثة أوجه؛ فليحفظ.

قال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» : احتج بالحديث أصحابنا على أن الماء الذي لا يبلغ الغدير العظيم إذا وقعت فيه نجاسة؛ لم يجز الوضوء به قليلًا كان أو كثيرًا، وعلى أنَّ القلَّتين تحمل النَّجاسة؛ لأنَّ الحديث مطلق، فبإطلاقه يتناول القليل، والكثير، والقلتين، والأكثر منهما، ولو قلنا: إنَّ القلتين لا تحمل النجاسة؛ لم يكن للنهي فائدة، على أنَّ هذا الحديث أصح من حديث القلَّتين، انتهى.

قلت: بل حديث القلَّتين مما لا يثبت، كما صرَّح به الحفَّاظ، فهو بالجملة ضعيف واه لا يُعْمَلُ به.

وزعم ابن قدامة: أن حديث القلَّتين وحديث بئر بضاعة نصٌ يخالف ما ذهب إليه الأئمَّة الحنفية، وبئر بضاعة لا يبلغ إلى الحدِّ الذي يمتنع التنجيس عندهم.

وردَّه إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» فقال: (لا نسلم أن هذين الحديثين نصٌ في خلاف مذهبنا، أمَّا حديث القلَّتين؛ فلأنَّه مضطرب سندًا ومتنًا، والقلَّة في نفسها مجهولة، والعمل بالصحيح المتَّفق عليه أولى وأقرب، وأمَّا حديث بئر بضاعة؛ فإنَّا نعمل به، فإنَّ ماءها كان جاريًا) انتهى.

قلت: وبِضاعة: اسم امرأة، وهي بكسر الموحدة وضمها: بئر قديمة بالمدينة، يلقى فيها الجيف ومحايض النساء، فذكر ذلك للنبيِّ عليه السَّلام حين توضأ منها، فقال: «الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو ريحه أو طعمه»، وقد كان ماؤها جاريًا في البساتين يسقى منه خمسة بساتين، وفي الماء الجاري لا ينجس بوقوع النَّجاسة عندنا.

لا يقال: العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فكيف اختص بئر بضاعة مع وجود دليل العموم فيه، وهو الألف واللام؟

لأنَّا نقول: هذا ليس من باب الخصوص في شيء، وإنَّما هو من باب الحمل للتوفيق، فإن الحديثين إذا تعارضا وجُهل تاريخهما؛ جُعل كأنهما وردا معًا، ثم بعد ذلك إن أمكن العمل بهما؛ يحمل كلٌّ منهما على محمل، وإن لم يمكن؛ يطلب الترجيح، وإن لم يمكن؛ تهاترتا، وههنا: أمكن العمل بأن يحمل هذا الحديث على بئر بضاعة، وحديث المستيقظ وحديث الباب على غيرها، فعلمنا بذلك دفعًا للتناقض على أنَّ حديث بئر بضاعة لم يثبت، كما ذكره الدارقطني وغيره، فلا يعارض الصحيح القوي، وقال البيهقي: إنه غير قوي، فلا يصحُّ الاستدلال به، وإنما صحَّ بدون استثناء، وظاهره: أنه غير مراد إجماعًا؛ لأنَّه إذا تغيَّر بالنَّجاسة؛ تنجَّس إجماعًا، كذا قرره في «منهل الطلاب».

فقول ابن قدامة: (وبئر بضاعة لا يبلغ...) إلخ فاسد؛ لما علمت، على أنَّ البيهقي روى عن الشافعي: أن بئر بضاعة كانت كثيرة الماء واسعة، وكان يُطرح فيها من الأنجاس ما لا يغيِّر لها لونًا، ولا طعمًا، ولا ريحًا؛ فافهم.

ثم قال إمام الشارحين: فإن قالوا: حديثكم عامٌّ في كل ماء، وحديثنا خاصٌّ فيما يبلغ القلَّتين، وتقديم الخاصِّ على العام متعين، كيف وحديثكم لا بدَّ من تخصيصه، فإنَّكم وافقتمونا على الماء الكثير الذي يزيد على عشرة أذرع، وإذا لم يكن بدٌّ من التخصيص، فالتخصيص بالحديث أولى؟

قلنا: لا نسلِّم أنَّ تقديم الخاص على العام متعين، بل الظاهر من مذهب الأئمَّة الحنفية ترجيح العام على الخاص في العمل به، كما في تحريم (١) بئر الناضح، فإنَّه رجح قوله عليه السَّلام: «من حفر بئرًا؛ فله مما حولها أربعون ذراعًا» على الخاص الوارد بقوله عليه السَّلام: «ليس فيما دون خمس أوسق صدقة»، ونُسخ الخاص بالعام.

وقولهم: (التخصيص بالحديث أولى) قلنا: هذا إنَّما يتمُّ ويكون؛ إذا كان الحديث المخصص غير مخالف للإجماع، وحديث القلَّتين خبر آحاد، ورَدَ مخالفًا لإجماع الصحابة، فيُرَدُّ.

وبيانه: أن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنهما أفتيا في زنجيٍّ وقع في بئر زمزم بنزح الماء كله، ولم يَظْهَرْ أثرُه في الماء، وكان الماء أكثر من قلَّتين، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يُنْكِرْ عليهما أحد منهم؛ فكان إجماعًا، وخبر الواحد إذا ورد مخالفًا للإجماع؛ يُردُّ، ويدلُّ لهذا أنَّ علي ابن المديني قال: (لا يثبت هذا الحديث عن النبيِّ عليه السَّلام)، وكفى به قدوة في هذا الباب، وقال أبو داود: (لا يكاد يصحُّ لواحد من الفريقين حديث عن النبيِّ عليه السَّلام في تقدير الماء)، وقال صاحب «البدائع» : (ولهذا رجع أصحابنا في التقدير إلى الدَّلائل الحسِّية دون الدلائل السَّمعية) انتهى.

ثم قال إمام الشارحين: فهذا الحديث عامٌّ، فلا بدَّ من تخصيصه اتفاقًا بالماء المستبحر الذي لا يتحرك أحد طرفيه بتحرك الطرف الآخر؛ لما قلنا، أو بالعمومات الدَّالة على طهورية الماء ما لم يتغير أحد أوصافه الثلاثة، كما ذهب إليه مالك، أو بحديث القلَّتين، كما ذهب إليه الشافعي، وزعم ابن حجر: أن التفصيل بالقلَّتين أقوى؛ لصحة الحديث فيه، وقد اعترف الطحاوي من الحنفية بذلك، لكنه اعتذر عن القول به: بأنَّ القلَّة في العرف تطلق على الكبيرة والصغيرة والجرَّة، ولم يثبت في الحديث تقديرها، فيكون مجملًا، فلا يُعْمَلُ به، وقوَّاه ابن دقيق العيد، قال إمام الشارحين: هذا القائل ادَّعى، ثم أبطل دعواه بما ذكره، فلا يحتاج إلى ردِّ كلامه بشيء آخر.


(١) في الأصل: (حريم).

<<  <   >  >>