للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

واعترضه العجلوني، فقال: (ليتأمل كلامه من أين أبطل دعواه بما ذكره؟) انتهى.

قلت: كيف خفي عليه ذلك، وهو ظاهر لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم؟ فإن قوله: (القلة في العرف تطلق...) إلخ؛ دليل ظاهر على إبطال مدَّعاه، وذلك لأنَّ القلَّة في نفسها مجهولة؛ لأنَّها تذكر ويراد بها: قامة الرجل، وتذكر ويراد بها: رأس الجبل، كما روي ذلك عن علي رضي الله عنه، وتذكر ويراد بها: الجرَّة، وتطلق على الكبيرة والصغيرة، فلا ريب أنَّها مجهولة، وبالمجهول لا يثبت الأحكام.

وقوله: (ولم يثبت في الحديث تقديرها) : ظاهر أيضًا في إبطال دعواه؛ لأنَّه إذا لم يثبت تقديرها في الحديث؛ كيف يصح ويجوز العمل به؟!

وقوله: (فيكون مجملًا، فلا يعمل به) : ظاهر أيضًا في إبطال دعواه؛ لأنَّ المجمل لا يجوز العمل به.

وقول الشافعي: (بقلال هجر) منقطع للجهالة التي ذكرناها، والتعيين لـ (قلال هجر)، إنَّما جاء من قول جرير، وهو غير ثابت من غيره، فالتَّعيين بقول جرير لا يثبت؛ لأنَّه مقلِّد فيبقى الاحتمال، ويبطل الاستدلال؛ فافهم.

ونقل العجلوني عن القاسم بن سلام: أن المراد بالقلة: الكبيرة، إذ لو أراد الصغيرة؛ لم يحتج لذكر العدد، فإن الصغيرتين قدر واحدة كبيرة، ويُرجع في الكبيرة إلى العرف، والظاهر: أن الشارع ترك تحديدهما على سبيل التوسعة، والعلم محيط بأنَّه ما خاطب الصحابة إلا بما يفهمونه، فانتفى الإجمال، لكن لعدم التحديد وقع الخلف بين السلف في مقدارهما على تسعة أقوال حكاها ابن المُنْذِر، ثم حدَّث بعد ذلك تحديدهما بالأرطال، انتهى.

قلت: وهذا فاسد، فأيُّ دليل دلَّه على أنَّ المراد بالقلة: الكبيرة، وما هي إلا دعوى باطلة؟

وقوله: (إذ لو أراد الصغيرة...) إلخ؛ ممنوع، فإن ذكر العدد يحتاج إليه في الكبيرة قطعًا؛ إذ لا فرق بين الكبيرة والصغيرة من حيث العدد.

وقوله: (فإن الصغيرتين...) إلخ؛ هذا دليل فاسد، فإنَّ المقادير لا تقدَّر بالرأي، بل بالدليل الظاهر، وهنا ليس كذلك.

وقوله: (ويرجع في الكبيرة...) إلخ؛ فاسد، فإن العرف في هذا لا مجال له؛ لأنَّه يختلف باختلاف الأزمان، والبلدان، والأشخاص، فيلزم أن تكون في زمن مقدرة بشيء، وفي غيره بعده بشيء آخر، وكذا في بلد وبلد، وهذا تناقضٌ وقولٌ بالرأي بعينه، وهو مردودٌ لا يُعْمَلُ به.

وقوله: (والظاهر...) إلخ، من أين جاءه هذا الظاهر وما هو إلا دعوى من غير دليل؟! فأي ظاهر ظهر له من غير دليل؟!

وقوله: (على سبيل التوسعة) : ممنوع، فإنَّ الشارع لو كان مراده التوسعة؛ لبين مقدارها، ولكن علم أنَّها مجهولة في لسان العرب، تطلق ويراد بها: قامة الرجل إلى غير ذلك كما تقدم.

وقوله: (والعلم محيط...) إلخ؛ هذا فاسد، فإن الصحابة رضي الله عنهم كان لهم إطلاقات في القلَّة، فإن عليًّا رضي الله عنه كان يطلق القلَّة، ويريد بها: قامة الرجل، ويطلقها ويريد بها: رأس الجبل.

فقوله: (فانتفى الإجمال)؛ ممنوع، بل ثبت الإجمال، وثبتت الجهالة، كما لا يخفى.

وقوله: (لكن لعدم...) إلخ؛ استدراك لما قدمه، وفيه إبطال لما ادعاه من عدم الإجمال، وقد رجع إلى القول بالإجمال والجهالة، فإنَّ عدم تحديدها هو عين الإجمال والجهالة.

وقوله: (وقع الخلف...) إلخ؛ فإن الخلاف الواقع بين السلف في مقدارها على الأقوال المذكورة دليل ظاهر على الإجمال والجهالة؛ لأنَّها لو كانت معلومة؛ لم يقع الخلاف في مقدارها، والتقدير الذي حدث بعد ذلك بالأرطال هو قولٌ بالرأي بعينه، وهو مردودٌ غير مقبول؛ لأنَّه لم يثبت عن النبيِّ الأعظم عليه السَّلام، ولم يُنْقَل عنه أصلًا، ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، ولا عن أحد من التابعين، بل اختراع ورأي فاسد على أن قدمنا عن علي ابن المديني شيخ المؤلِّف أنَّه قال: (حديث القلَّتين مما لا يثبت)، وقال البيهقي: (إنه غير قوي)، وقد تركه الغزالي والروياني مع شدَّة تعصبهما للشافعي؛ لشدَّة ضعفه، فلا يعارض القوي الصحيح، وإذا كان كذلك؛ فالاشتغال بردِّه لا حاجة إليه؛ لأنَّه لا يعمل به، ولا يعتمد عليه، لا سيما ومسائل الطهارة مبنيَّة على الاحتياط، وهنا ليس كذلك، بل فيه عدمه؛ فليحفظ.

واستدلَّ بالحديث الإمام الثاني أبو يوسف قدس سره على نجاسة الماء المستعمل، فإنه قرن فيه بين الغسل فيه والبول فيه، أمَّا البول فيه؛ فينجسه، فكذلك الغسل، وفي دلالة القران بين الشيئين مع استوائهما في الحكم خلاف بين العلماء، فالمذكور عن الإمام أبي يوسف وتبعه المزني ذلك، وخالفهما غيرهما.

واعترض ابن حجر، فزعم أن دلالة القران ضعيفة.

وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّ هذا عجيب منه، فإذا كانت دلالة القران صحيحة عندهم؛ فقوله: (وهي ضعيفة) يردُّ على قائله على أنَّ مذهب أكثر أصحاب إمامه مثل مذهب الإمام أبي يوسف على تنجُّس الماء المستعمل، فإنَّ البول ينجِّس الماء، فكذلك الاغتسال فيه.

ثم قال ابن حجر: وعلى تقدير تسليمها قد يلزم التسوية، فيكون النهي عن البول؛ لئلا ينجسه، وعن الاغتسال؛ لئلا يسلبه الطهورية.

وردَّه في «عمدة القاري» : بأنَّ هذا أعجب من الأول؛ لأنَّه تحكم حيث لا يفهم هذه التسوية من نظم الكلام، والذي احتجَّ به في نجاسة الماء المستعمل يقول بالتسوية من نظم الكلام.

ثم قال ابن حجر: ويزيد ذلك وضوحًا ما في رواية مسلم: (كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولًا)، فدلَّ على أنَّ المنع عن الانغماس فيه؛ لئلا يصير مستعملًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به، والصحابي أعلم بموارد الخطاب من غيره، وهذا من أقوى الأدلة على أنَّ المستعمل غير طهور، انتهى.

قلت: هذا أعجب مما تقدم، فإن رواية مسلم: (يتناوله تناولًا) تدل على النَّجاسة صريحًا؛ لأنَّه دلَّ على منع الانغماس فيه، وأنَّه يأخذ منه بإناء صغير حتى يُفْرِغَ على بدنه وأعضائه، فالمنع عن الانغماس فيه لئلا يصير نجسًا، فيمتنع على الغير الانتفاع به بالكلية، فهذا دليل ظاهر على النَّجاسة، وزاد دليل النَّجاسة وضوحًا، لا كما زعم، فإنه يفهم الشيء بالعكس.

وقوله: (والصحابي أعلم...) إلخ سلَّمنا أنه أعلم، لكنَّه هنا لم نسلِّم أنَّه فهم من كلامه أنَّ المستعمل طاهر، بل قوله: (يتناوله تناولًا) : يعمُّ معنيين: النَّجاسة وهو الأظهر، والطهارة وهو بعيد؛ لأنَّ التناول الأخذ بإناء من إناء آخر، وهو يدلُّ على كمال التحرُّز، وهو يفيد أنَّه ينجس.

وقوله: (وهذا من أقوى...) إلخ، بل هذا دليل واهٍ أوهى من بيت العنكبوت، فإن الأدلة على النَّجاسة ظاهرة؛ كالشمس في رابعة النهار، تقدَّم لنا الكلام عليها، وهذا منها؛ فليحفظ.

وقال إمام الشارحين صاحب «عمدة القاري» : (في الحديث: التأديب بالتنزُّه عن البول في الماء الراكد، وقد أخذ داود الظاهري بظاهر هذا الحديث، وقال: النهي مختصٌّ بالبول، والغائط ليس كالبول، ومختص ببول نفسه، وجاز لغير البائل أن يتوضأ بما بال فيه أيضًا، وجاز أيضًا للبائل إذا بال في إناء، ثم صبه في الماء، أو بال بقرب الماء، ثم جرى إليه، وهذا أقبح ما نُقِلَ عنه) انتهى.

قال العجلوني: تخصيصه الحكم بالبول دون الغائط غير ظاهر، بل هو أشد وأكره، وكذا تخصيصه الحكم ببول نفسه، وأمَّا كونه أقبح ما نقل عنه، فهو ظاهر إن كان هذا الحكم مع فرض الماء كثيرًا ولم يتغير، وأمَّا إذا كان الماء قليلًا أو كان كثيرًا لكنَّه تغير؛ فلا قبح

<<  <   >  >>