للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

كونه مقابلًا للباب قريبًا من الجدار يستلزم كون صلاته بين الساريتين.

قلت: وفيه تعسف قدمنا وجهه قريبًا.

وفي الحديث: جواز الصلاة مطلقًا فرضها وواجبها ونفلها في البيت الحرام، وهو مذهب الأئمة الحنفية، وبه قال الشَّافعي، وتبعهم أحمد ابن حنبل في النفل، وخالفهم في الفرض، فمنع الفريضة فيها، والحديث حجة عليه.

وفيه: استحباب الدنو من السترة؛ لأنَّ الشَّارع قد أمر بالدنو منها؛ كيلا يتخلل الشَّيطان ذلك، والأمر هنا للاستحباب، كما لا يخفى.

وفيه: أنَّ السترة بين المصلي والقبلة ثلاثة أذرع، وادعى ابن بطال أنَّ الذي واظب عليه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في مقدار ذلك ممرُّ الشاة، كما جاء في الآثار، انتهى.

ولم يعترضه أحد من الشراح، وأقول: هذه دعوى لا دليل لها؛ لأنَّه قد جاء في الآثار تارة: (ثلاثة أذرع)، وتارة: (ممر الشاة)، بل الذي دلت عليه الآثار المواظبة على ثلاثة أذرع؛ لأنَّه هو الذي يتمكن المصلي من دفع المار بين يديه، وفي «مصنف ابن أبي شيبة» بسند صحيح: (قال أبو إسحاق: رأيت عبد الله بن مغفل يصلِّي بينه وبين القبلة ستة أذرع)، وفي نسخة: (ثلاثة أذرع)، ولهذا لم يحدَّ مالك بن أنس في هذا حدًّا إلا أنَّ ذلك بقدر ما يركع فيه ويسجد؛ فافهم.

وفي الحديث: أنَّه لا يشترط في صحة الصلاة في البيت موافقة المكان الذي صلى فيه النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، كما أشار إليه ابن عمر، ولكن الموافقة أولى، وإن كان يحصل الفرض بغيره، ففيه أنَّه تستحب الصلاة في ذلك المكان؛ لأجل الموافقة.

وقد قدمنا أنَّ الحديث لا يدل صريحًا على الصلاة بين الساريتين، وقد اختلف السلف في الصلاة بين السواري؛ فأجازه الأئمة الكوفيون، وبه قال الحسن البصري، وابن سيرين، وكان سعيد بن جبير وإبراهيم التيمي وسويد بن غفلة يؤمون قومهم بين الأساطين، وقال مالك: لا بأس بالصلاة بينها لضيق المسجد، وكرهها أنس بن مالك؛ لورود النَّهي بذلك، رواه الحاكم وصححه، وقال ابن مسعود: (لا تصفوا بين الأساطين وأتموا الصفوف)، قال ابن حبيب: ليس النَّهي عن تقطيع الصفوف إذا ضاق المسجد، وإنَّما نهي عنه إذا كان المسجد واسعًا، وقال القرطبي: سبب الكراهة أنَّه روي: أنَّ بين الأساطين مصلى الجن المؤمنين، انتهى.

قلت: وسبب الكراهة أنَّ بين الأساطين مكانٌ مُعدٌّ لوضع النعال، وهي ملوثة بالنجاسات غالبًا، فالتحرز عنها مطلوب، وقد يقال: إنَّ النعال تطهر بالدلك، فهي طاهرة عند الجمهور، وأقول: ولمَّا وَرَد: أنَّ بين الأساطين مصلى الجن؛ فلا مجال لإيراد سبب آخر؛ فافهم، والله أعلم.

(٩٨) [باب: الصَّلَاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ.]

هذا (باب) حكم (الصلاة) أي: بالتوجه (إلى الراحلة) قيل: وفي نسخة: (على الراحلة)، وهي بمعنى (إلى)؛ لأنَّ حروف الجر يستعار بعضها مكان بعض، ويأتي بعضها بمعنى بعض، وتقدير الحكم أولى من تقدير الجواز؛ لأنَّه أعم؛ فافهم.

والمراد بالحكم: الجواز لا الندب كما زعمه العجلوني، فإنَّه غير مصيب؛ لأنَّ المندوب الصلاة إلى سترة لا خصوص الراحلة ونحوها؛ فليحفظ.

والرَّاحلة: النَّاقة التي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وتمام الخلق، وحسن المنظر، فإذا كانت في جماعة الإبل؛ عُرِّفت، والهاء فيه للمبالغة؛ كما يقال: رجل داهية وراوية، وقيل: إنَّما سميت راحلة؛ لأنَّها ترحل، كما قال تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [القارعة: ٧]؛ أي: مرضية، وتجمع على رواحل، وقال الجوهري: الراحلة: الناقة التي تصلح لأن يوضع عليها الرحل، وقال الأزهري: الراحلة: المركب النجيب ذكرًا كان أو أنثى، انتهى.

(و) إلى (البعير) وهو من الإبل بمنزلة الإنسان من الناس، يقال للجمل: بعير، وللناقة: بعير، وبنو تميم يقولون: بِعير وشِعير؛ بكسر الباء الموحدة والشين المعجمة، والفتح هو الفصيح، وإنَّما يقال له: بعير؛ إذا أجدع، والجمع: أبعرة في أدْنى العدد، وأباعر في الكثير، وأباعير وبعران، وهذه عن الفراء، ومعنى أجدع: إذا دخل في السَّنة الخامسة.

قال إمام الشَّارحين: (فإن قلت: إذا أطلق البعير على الناقة، والراحلة هي الناقة، فما فائدة ذِكر البعير؟ قلت: ذهب بعضهم إلى أنَّ الراحلة لا تقع إلا على الأنثى، ولأجل ذلك أردفه بالبعير، فإنَّه يقع عليهما) انتهى.

قلت: فعطف (البعير) على (الراحلة) من عطف العام على الخاص؛ لأنَّ الراحلة خاصة بالناقة والبعير أعم، وسقط لفظ: (البعير) للأصيلي.

(و) إلى (الشجر) هو جمع شجرة؛ وهي ما له ساق من النباتات، (و) إلى (الرَّحْل)؛ بفتح الرَّاء، وسكون الحاء المهملة؛ وهو للبعير أصغر من القتب، وهو الذي يركب عليه، وهو الكُور، بِضَمِّ الكاف؛ كالسرج للفرس.

قال ابن بطال: وهذه الأشياء كلها تجوز الصلاة إليها، وكذا تجوز إلى كل شيء طاهر، انتهى.

قلت: وفي إطلاقه نظر؛ لأنَّ كل شيء غير ما ذكر يشترط فيه أن يكون طول ذراع فأكثر؛ لحديث عائشة عند النسائي قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك عن سترة المصلي، فقال: «مثل مؤخرة الرَّحْل»؛ فليحفظ.

[حديث: أن النبي كان يعرض راحلته فيصلي إليها]

٥٠٧ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمَّد بن أبي بكر المقدَّمي) بتشديد الدَّال المهملة، اسم مفعول (البصري) وهي ساقطة في بعض النُّسخ (قال: حدثنا مُعتمر) بِضَمِّ الميم، اسم فاعل (بن سُليمان) بِضَمِّ السين المهملة، (عن عبيد الله) بالتصغير، زاد الأصيلي: (ابن عمر)، (عن نافع) هو مولى ابن عمر المدني، (عن ابن عمر) هو عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي المدني رضي الله عنهما، (عن النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم) وقوله: (إنَّه) بكسر الهمزة (كان)؛ أي: في بعض الغزوات، لا يقال: إنَّ لفظة (كان) للدوام والاستمرار؛ لأنَّا نقول: ليست هي في هذا المعنى في جميع الأوقات، بل تارة وتارة؛ بدليل أنَّه عليه السَّلام كان يصلِّي في المسجد النَّبوي لغير راحلة؛ فافهم، (يُعرِّض)؛ بِضَمِّ التحتية وتشديد الرَّاء، من التعريض؛ أي: يجعلها عرضًا، كذا في «عمدة القاري»، وتبعه في «الفتح»، وفي رواية: (يَعْرُض)؛ بفتح أوله وسكون ثانية وضم ثالثه أو كسره، واستوجهها القاضي عياض كما في «التنقيح».

قلت: ولم يذكر وجهها أحد من الشراح، ولعله أنَّ الرواية الأولى تفيد المبالغة بخلاف الثانية، فيحتاج في الأولى إلى عمل كثير من تسويتها إمَّا بنفسه أو بغيره، بخلافه على الثانية فإنَّه لا يحتاج لشيء سوى وضعها تلقاء وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم، وهو كان لحصول المقصود؛ فتأمَّل.

(راحلته)؛ أي: المخصوصة به عليه السَّلام في أسفاره بدليل إضافتها إليه، ولو قال: راحلة؛ بالتنكير؛ لاحتمل أن يجعل راحلة غيره من أصحابه، ولعله إنَّما كان يفعل ذلك لأجل التشريع من حيث إنَّ الإنسان إذا كان مسافرًا مع جماعة؛ يجعل راحلة نفسه دون غيره؛ لاحتمال نجاسة راحلة غيره، أو عدم إذنه، أو غير ذلك؛ فافهم (فيصلِّي إليها)؛ أي: يجعلها سترة في صلاته تلقاء وجهه الشريف صلى الله عليه وسلم.

(قلت) من قول نافع لمولاه ابن عمر، كما صرح به إمام الشَّارحين حيث قال: (فإن قلت: مَنْ السائل هنا مِنَ المسؤول؟ قلت: الذي يدل [عليه] الظَّاهر أنَّه كلام نافع، وهو السائل، والمسؤول عنه: هو ابن عمر، لكن وقع في رواية الإسماعيلي من طريق عبيدة بن حميد عن عبيد الله بن عمر أنَّه كلام عبيد الله، والمسؤول نافع، فعلى هذا يكون هذا مرسلًا؛ لأنَّ فاعل «يأخذ» هو النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم ولم يدركه نافع) انتهى.

قلت: وقد تمسك بهذه الرواية العجلوني، واعتمد أنَّ السائل عبيد الله والمسؤول نافع، ونفى القول بأنَّه من قول نافع والمسؤول ابن عمر، ولا يخفى أنَّ الظَّاهر يخالفه، فإنَّ سياق اللَّفظ يدل صريحًا على أنَّ السائل نافع، والمسؤول ابن عمر رضي الله عنهما، ورواية الإسماعيلي لا تدل على ذلك؛ لأنَّها من طريق آخر غير ما ذكر، فهي قصة أخرى غير هذه، فالصَّواب ما قاله إمام الشَّارحين؛ فليحفظ، ولا حاجة إلى دعوى الإرسال هنا؛ لأنَّه مخالف للظاهر كما لا يخفى، نعم؛ هو واقع في رواية الإسماعيلي، وهي قضية

<<  <   >  >>