للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بها المصلي في الجماعة، انتهى.

قلت: وكلامه مخالف للنص؛ وهو قوله عليه السَّلام: «سترة الإمام سترة لمن خلفه»، أخرجه الطَّبراني من حديث أنس، وكذا روي عن ابن عمر أخرجه عبد الرزاق، فإنَّ هذا نص على أنَّه إذا صلى الإمام في محرابه والمقتدون خلفه بين الأساطين؛ لا تكره صلاتهم وإن مرَّ أحد أو كلب أو غيرهما؛ لأنَّ سترة إمامهم سترة لهم بالنص، كما لا يخفى.

وقوله: (ويستحب...) إلخ: هذا إذا كان الإمام قدام الصف محكمًا، أما إذا كان الإمام في محرابه وخلفه صف وبعده صف آخر بين الأساطين؛ فلا كراهة في ذلك بالنص، على أنَّ هذا مذهبه، وهو لا يعارض الحديث، بل الحديث حجة عليه؛ فافهم.

ثم قال ابن بطال: واختلف السلف في الصلاة بين السواري؛ فكرهه أنس وقال: (كنا نتَّقيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي لفظ: (كنا نُنهى عن الصلاة بين السواري ونُطرد عنها)، صححها الحاكم، وقال ابن مسعود: (لا تصفوا بين الأساطين)، وكرهه حذيفة وإبراهيم وقال: (لا تصفوا بين الأساطين وأتموا الصفوف)، وسلفهم أثر عمر في ذلك، انتهى.

قلت: هذا محمول على العلة في النَّهي كما تقدم، إمَّا لأنَّها موضع وضع النِّعال، وهي دائرة، فإذا زالت العلة؛ انتفت الكراهة، وإمَّا لكون المسجد واسعًا، وإمَّا لانقطاع الصفوف، أو غير ذلك مما سبق، فالعلة دائرة مع المعلول، وحيث انتفت العلة انتفت الكراهة على أنَّ هذا روي موقوفًا، وهو لا يُقاوِم المرفوع؛ فافهم.

[حديث: أن رسول الله دخل الكعبة وأسامة بن زيد]

٥٠٥ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) هو التنيسي الدمشقي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي المدني، (عن نافع) هو المدني مولى ابن عمر، (عن عبد الله بن عمر) هو ابن الخطاب القرشي العدوي رضي الله عنهما، وسقط (عبد الله) لابن عساكر: (أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم) بفتح الهمزة (دخل الكعبة)؛ أي: بعد أن أمر عثمان بفتح بابها بعد قدومه إلى مكة عام الفتح كما بيَّنتْه الرواية السَّابقة (وأسامة بن زيد) هو خادمه عليه السَّلام، قال الشَّارح: بنصب (أسامة) عطفًا على (رسول)، ويجوز رفعه عطفًا على فاعل (دخل) (وبلال) هو المؤذن المدفون بمقبرة باب الصغير بديارنا الشريفة الشامية (وعثمان بن طلحة الحَجَبِي)؛ بفتح الحاء المهملة والجيم، وبالموحَّدة المكسورة؛ نسبة إلى حجابة الكعبة، وهو الذي بيده مفتاح الكعبة (فأغلقها)؛ أي: أغلق عثمان الحجبي الكعبة؛ أي: بابها بأمره عليه السَّلام (عليه)؛ أي: على النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه المذكورين، وإنَّما أغلق الباب عليهم؛ لئلا يزدحم الناس عليه لتوفر دواعيهم على مراعاة أفعال النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، وإنَّما خَصَّ عثمان الحجبي بالغلق دون غيره من الموجودين؛ لأنَّه صاحب مفتاح الكعبة، أو (١) حتى لا يتوهم الناس عزله عن سدانة الكعبة؛ فافهم، (ومكَث) بفتح الكاف وضمها (فيها)؛ أي: الكعبةِ النَّبيُّ الأعظم صلى الله عليه وسلم وأصحابه المذكورون، وكان مكثه طويلًا، كما بيَّنتْه الرواية السَّابقة، وذلك لأجل الصلاة والدعوات.

وقوله: (فسألتُ) بضمير المتكلم (بلالًا حين خرج) أي: من الكعبة: (ما صنع النَّبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم؟) -أي: في الكعبة- من كلام ابن عمر، (قال) أي: بلال: (جعل) أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه، وثلاثة أعمدة وراءه)؛ بالنصب على الظرفية، وذلك حين صلى في الكعبة، وإنَّما قدم اليسار على اليمين مع أنَّ اليمين أشرف؛ لأنَّ هذا حكاية الجعل المذكور عن هيئة الفعل في اللَّفظ مع قطع النَّظر عن الشرف في أحدهما، (وكان البيت يومئذٍ)؛ أي: يوم إذ دخله عليه السَّلام، وذلك عام الفتح (على ستة أعمدة)، وزعم الكرماني: وفي بعضها: (ستة)؛ بإسقاط لفظة: (على)، فهي مقدرة على طريق نزع الخافض، انتهى.

قلت: ويفهم منه أنَّ لفظ: (ستة) مجرور بـ (على) مقدرة، وفيه أنَّ حروف الجر لا تعمل مقدرة، وقوله: (على طريق نزع الخافض) : مفهومه أنَّها منصوبة بنزع الخافض، وهذا تناقض في الكلام مع خفاء المعنى المرام على أنَّه لم يَعزُ هذه النُّسخة لأصل يعتمد عليه، ولا لرواية راوٍ يعول عليه، فالله أعلم بصحتها، وعلى تقدير صحتها؛ فالصَّواب أنَّ (ستة) منصوب، إمَّا على الحال أو على التمييز، ويحتمل على بُعدٍ أنَّه منصوب على طريق نزع الخافض على هذه النُّسخة؛ فافهم.

(ثم صلى)؛ أي: النَّبي الأعظم صلى الله عليه وسلم في الكعبة بين الأعمدة، ففيه: جواز الصلاة بين الأساطين من غير كراهة، وهو شامل للنفل والفرض مع جماعة وبدونها، فإنَّ لفظ الحديث مطلق، ولا مانع أنَّه عليه السَّلام قد صلى في الكعبة جماعة، فإنَّها تحصل بواحد فأكثر -وكان معه ثلاثة- ولو كانت نفلًا؛ لأنَّ النفل بالجماعة مشروع ولو على سبيل التداعي، وهذا حجة على من كره ذلك مما قدمناه.

(وقال إسماعيل) هو ابن أبي أويس -كما في رواية أبي ذر والأصيلي- ابن أخت مالك بن أنس، وفي رواية كريمة: (وقال لنا)، وهذه الرواية أحط رتبة ودرجة من (حدثنا)، كذا قاله إمام الشَّارحين، وتبعه ابن حجر والقسطلاني، وهذا يدل على أنَّ (لنا) ثابتة في رواية كريمة فقط، وزعم العجلوني أنَّها ثابتة في الروايتين، وليس كذلك كما لا يخفى؛ فافهم، وهذا موصول كما صرح به إمامنا الشَّارح؛ فافهم: (حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الأصبحي؛ أي: بهذا الحديث مع تتمة سنده السَّابق (وقال) ولأبي ذر: (فقال)؛ أي: في آخر الحديث: (عمودين عن يمينه)، فإن قلت: في رواية مالك إشكال؛ لأنَّه قال: (عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه)، وهذان اثنان، ثم قال: (وثلاثة أعمدة وراءه) فتكون الجملة خمسة، ثم قال: (وكان البيت يومئذٍ على ستة أعمدة).

قلت: أجاب الكرماني: بأنَّ لفظ العمود جنس يحتمل الواحد والاثنين، فهو مجمل بيَّنه مالك في رواية إسماعيل بن أبي أويس، وهي قوله: (وقال لنا إسماعيل: حدثني مالك، فقال: عمودين عن يمينه)، فحينئذٍ تكون الأعمدة ستة.

وأجاب ابن حجر: بأنَّه حيث ثنَّى؛ أشار إلى ما كان عليه البيت في الزمن النَّبوي، وحيث أفرد؛ أشار إلى ما كان عليه بعد ذلك، ويشير إليه قوله: (وكان البيت يومئذٍ)، فإنَّ فيه إشعارٌ (٢) بتغيره عن هيئته الأولى.

وقال خلف: لم أجده من حديث إسماعيل، وقد اختلف عن مالك في لفظه، فرواه مسلم: (عمودين عن يساره، وعمودًا عن يمينه) عكس رواية إسماعيل، وفي رواية البخاري: (عمودًا عن يساره، وعمودًا عن يمينه)، قال البيهقي: هو الصَّحيح، وفي رواية: (جعل عمودًا عن يمينه، وعمودين عن يساره) عكس ما سبق.

وقد ذكر الدارقطني الاختلاف على مالك فيه؛ فوافق الجمهور عبد الله بن يوسف في قوله: (عمودًا عن يمينه)، ووافق إسماعيل في قوله: (عمودين


(١) زيد في الأصل: (لأنه).
(٢) في الأصل: (إشعارًا).

<<  <   >  >>