للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

خرَّج البخاري هذا الحديث في (علامات النبوة)، وفيه دلالة لأهل السنة من الماتردية والأشاعرة حيث لا يشترطون في الرؤية مواجهة ولا مقابلة، وهذا هو الحق الصواب؛ لأنَّ الرؤية لا يشترط عقلًا عضو مخصوص، ولا مقابلة، ولا قرب، ولا بعد، ولهذا حكموا بجواز رؤية الباري تعالى في الدار الآخرة، خلافًا للمعتزلة في الرؤية مطلقًا، وللمُشَبِّهة والكَرَّامية في خلوها عن المواجهة والمكان، فإنَّهم إنَّما جوزوا رؤية الله تعالى؛ لاعتقادهم كونه تعالى في الجهة والمكان، وأهل السنة أثبتوا رؤية الله تعالى بالنقل والعقل، وبينوا بالبرهان على أن تلك الرؤية مبرأة عن الانطباع والمواجهة واتصال الشعاع بالمرئي، كما بين في موضعه، كذا قرره إمام الشَّارحين.

ثم قال: (ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إنَّ في هذا الحديث وعظًا لهم وتذكيرًا وتنبيهًا بأنَّه لا يخفى عليه ركوعهم وسجودهم، ولا يظنون أنه لا يراهم؛ لكونه مستدبرًا لهم، وليس كذلك؛ لأنَّه عليه السَّلام يرى من خلفه مثل ما يرى من بين يديه، ويستفاد من الحديث: أنه ينبغي للإمام إذا رأى أحدًا (١) مُقصِّرًا في شيء من أمور دينه أو ناقصًا للكمال منه؛ أن ينهاه عن فعله، ويحضَّه على ما فيه جزيل الحظ، ألا ترى أنه عليه السَّلام كيف وبَّخ من نقص كمال الركوع والسجود، ووعظهم في ذلك بأنَّه يراهم من وراء ظهره كما يراهم من بين يديه، وفي «تفسير سنيد» عن أنس، ولفظه: أقيمت الصلاة، فأقبل علينا بوجهه، فقال: «أقيموا صفوفكم وتراصوا، فإني أراكم من وراء ظهري»، وفي لفظ: «أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وإذا سجدتم»، وفي لفظ: «إني لأراكم من بعد ظهري إذا ركعتم وإذا ما سجدتم»، وعند مسلم: صلى بنا ذات يوم، فلما قضى صلاته؛ أقبل علينا بوجهه، فقال: «أيها الناس؛ إني إمامكم، فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف؛ فإني أراكم أمامي ومن خلفي»، ثم قال: «والذي نفس محمد بيده؛ لو رأيتم ما رأيت؛ لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا»، قالوا: وما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنة والنار») انتهى.

قلت: أشار عليه السَّلام بهذا إلى أن السبق في الأركان غير جائز، وقد ورد: أن الذي يرفع رأسه في الركوع قبل إمامه؛ أنه يُحوِّل رأسه رأس حمار يوم القيامة، فإن من سبق إمامه في ركن، ولم يشاركه إمامه فيه؛ فقد بطلت صلاته، وإن شاركه فيه؛ صحت وكان مسيئًا، ولا ريب أنه عليه السَّلام رأى في النار من يُعذَّب بهذا الفعل حتى أخبر عنه ونهى وزجر، وقال: «رأيت الجنة والنار»؛ إشارةً إلى هذا، فإنَّه في أمته رؤوف رحيم صلَّى الله عليه وسلَّم.

[حديث: إني لأراكم من ورائي كما أراكم]

٤١٩ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى بن صالح) : هو الوُحاظي -بضمِّ الواو، وتخفيف المهملة، ثم المعجمة- الحمصي، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين، عن نيف وسبعين، (قال: حدثنا فُلَيْح)؛ بضمِّ الفاء، وفتح اللام، وسكون التحتية، آخره مهملة (بن سُليمان)؛ بضمِّ المهملة، (عن هِلال)؛ بكسر الهاء (بن علي) ويقال: (هلال بن أبي هلال بن علي)، ويقال: (ابن أسامة) الفِهري المديني، المتوفى آخر خلافة هشام بن عبد الملك، (عن أنس بن مالك) : هو الأنصاري، خادم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (قال: صلى لنا)؛ أي: لأجلنا، وفي رواية كريمة: (صلى بنا)؛ بالموحدة؛ يعني: إمامًا (النبيُّ) الأعظم، ولأبي ذر: (رسول الله) (صلَّى الله عليه وسلَّم صلاة)؛ بالتنكير للإبهام، كذا قال الشَّارح، وتبعه الشراح.

قلت: والظاهر أنها صلاة الجمعة، يدل عليه قوله: (ثم رَقِيَ)؛ بفتح الراء، وكسر القاف، وفتح التحتية، ويجوز فتح القاف على لغة طيِّئ؛ ومعناه: صعد (المِنْبَر)؛ بكسر الميم، وسكون النون، وتخفيف الموحدة المفتوحة، ويجوز كسرها، فإنَّه لا يخطب إلا بعد صلاة الجمعة، فيتعين أنها هي، لا يقال: إن الخطبة تكون بعد صلاة الكسوف والاستسقاء؛ لأنَّا نقول: قوله: (صلاة) يدل على أنها كانت ذات ركوع وسجود من الفرائض؛ لأنَّها مطلقة، وهاتين (٢) الصلاتين لا يذكر إحداهما (٣) إلا بقيدها؛ فافهم.

(فقال في الصلاة) : فيه حذف؛ تقديره: فقال في شأن الصلاة وفي أمرها، أو يكون متعلقها محذوفًا؛ تقديره: أراكم في الصلاة، كذا قرره في «عمدة القاري»، وزعم ابن حجر أنه متعلق بقوله بعد: «لأراكم»، ورده إمام الشَّارحين فقال: (هذا غلط؛ لأنَّ ما في حيز «أن» لا يتقدم عليها) انتهى.

(وفي الركوع)؛ أي: وفي شأنه، وإنما أفرده بالذكر، وإن كان داخلًا (٤) في الصلاة؛ للاهتمام بشأنه؛ إمَّا لأنَّه أعظم أركانها؛ بدليل أنَّ المسبوق لو أدرك الركوع؛ فقد أدرك تلك الركعة بتمامها، وإمَّا لأنَّه عليه السَّلام علم أنَّهم قصَّروا في حال الركوع؛ فذكره؛ لزيادة التنبيه، انتهى.

إلى أن قال عليه السَّلام: (أَني) بفتح الهمزة (لأراكم) اللام فيه للتأكيد (من ورائي) : وفي رواية: (من وراء)؛ بحذف التحتية منه، والاكتفاء بالكسرة عنها، وزعم الكرماني أن لفظ الحديث السابق يقتضي عموم الرؤية من الوراء لجميع الأحوال، وسياق اللفظ يقتضي خصوصها بحال الصلاة، قال إمام الشَّارحين: (حُكي عن مجاهد: أنَّه كان في جميع أحواله) انتهى.

قلت: وعليه فتكون الرؤية من الوراء عامة في جميع أحواله، كما هو مقتضى لفظ الحديث السابق، لا يقال: المطلق محمول على المقيد؛ لأنَّا نقول: ليس هذا منه؛ لأنَّ هذا خاص به عليه السَّلام، والخصوصية تدل على العموم،


(١) في الأصل: (أحد)، وليس بصحيح.
(٢) في الأصل: (هذين)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٣) في الأصل: (أحدهما)، ولعل المثبت هو الصواب.
(٤) في الأصل: (دخلًا)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>