للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

يدل عليه الحديث الثاني الذي يليه، فإنه ذكر فيه أنه أعطي قوة ثلاثين، واعلم أن نسخ البخاري مختلفة في تقديم حديث أنس على حديث عائشة وعكسه، ومشى الداودي على تقديم حديث عائشة، وكذا ابن بطال في «شرحه»، انتهى.

قلت: ومشى على هذا إمام الشارحين بدر الدين شيخ الإسلام في «عمدة القاري»، وتبعه ابن حجر والقسطلاني والعجلوني، وتبعهم العبد الضعيف جامع هذه الأوراق.

(ثم يصبح محرمًا يَنْضَخ)؛ بفتح التحتية أوله، بعدها نون ساكنة، وفتح الضاد المعجمة، بعدها خاء معجمة؛ أي: يفور، ومنه قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: ٦٦]، وهذا هو المشهور، وضبطه بعضهم بالحاء المهملة، قال الإسماعيلي: وكذا ضبطه عامة من حدثنا وهما متقاربان في المعنى، وقال ابن الأثير: وقد اختلف في أيهما أكثر، والأكثر بالمعجمة، والأقل بالمهملة، وقيل: المعجمة: الأثر يبقى في الثوب والجسد، وبالمهملة: الفعل نفسه، وقيل: بالمعجمة: ما قيل متعمدًا، وبالمهملة من غير تعمُّد، وذكر صاحب «المطالع» عن ابن كيسان أنَّه بالمهملة: لما رق؛ كالماء، وبالمعجمة: ما ثخن؛ كالطيب.

وقال النووي: هو بالمعجمة أكثر من المهملة، وقيل: عكسه.

وقال ابن بطال: من رواه بالخاء المعجمة؛ كالنضخ عند العرب؛ كاللطخ، يقال: نضخ ثوبه بالطيب، هذا قول الخليل، وفي كتاب «الأفعال» : (نضخت العين بالماء نضخًا -بالمعجمة-؛ إذا فارت، واحتج بقوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَان}، ومن رواه بالحاء المهملة؛ فقال صاحب «العين» : نَضحتِ العينُ بالماء؛ إذا رأيتها تفور، وكذلك العين الناظرة إذا رأيتها معروفة، كذا في «عمدة القاري»، وقيل: النضخ؛ بالإعجام: الرش، مثل النضح؛ بالإهمال.

قلت: وهو قليل نادر في اللغة، ولهذا قال الأصمعي: (النضخ: بالمعجمة أكثر من النضح بالمهملة؛ فافهم)، والله أعلم.

وقوله: (طيبًا)؛ بالنصب على التمييز؛ ومعناه: يفور طيبًا، قال في «عمدة القاري» : ففيه: دلالة على استحباب الطيب عند الإحرام، وأنه لا بأس به إذا استدام بعد الإحرام، وإنما يحرم ابتداره في الإحرام، وهذا مذهب الإمام أبي يوسف، والثوري، والشافعي، وأحمد ابن حنبل، وداود، وغيرهم، وبه قال جماعة من الصحابة، والتابعين، وجماهير المحدثين، والفقهاء، فمن الصحابة: سعد بن أبي وقاص، وابن عباس، وابن الزبير، ومعاوية، وعائشة، وأم حبيبة رضي الله عنهم أجمعين، وقال آخرون بمنعه؛ منهم: الإمام محمَّد بن الحسن، والزُّهري، ومالك، وحكي عن جماعة من الصحابة، والتابعين، وادَّعى بعضهم أن هذا التطيُّب كان للنساء لا للإحرام، وادعى أن في هذه الرواية تقديمًا وتأخيرًا، والتقدير: فيطوف على نسائه ينضح طيبًا؛ ثم يصبح محرمًا، وجاء ذلك في بعض الروايات، والطيب يزول بالغسل لا سيما أنه ورد أنه كان يغتسل عند كل واحدة منهن، وكان هذا الطيب ذريرة، كما أخرجه البخاري في (اللباس)، وهو ما يذهبه الغسل، ويقويه رواية البخاري الآتية قريبًا: (طيبت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم طاف في نسائه، ثم أصبح محرمًا)، وروايته الآتية: (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرقه وهو محرم)، وفي بعض الروايات: (بعد ثلاث)، وقال القرطبي: هذا الطيب كان دهنًا، له أثر فيه مسك، فزال وبقيت رائحته، وادَّعى بعضهم خصوصيته ذلك بالشارع، فإنه أمر صاحب الجبة بغسله.

قلت: وأجيب بأن الأصل عدم الخصوصية، ولعله أمره لمن ذكر بالغسل؛ مخافة أن ينزعها، ثم يلبسها، أو لأنَّه لا يسن له تطيب الثوب والبدن قبل الإحرام، كما سيأتي في محله.

وقال المهلب: السنة اتخاذ الطيب للنساء والرجال عند الجماع، فكان عليه السلام أملك لإربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يتجنب الطيب على الإحرام، ونهانا عنه؛ لتعففنا عن ملك الشهوات؛ إذ الطيب من أسباب الجماع.

وفيه: الاحتجاج لمن لا يوجب الدلك في الغُسل؛ لأنَّه لو كان ذلك لم ينضخ منه الطيب، ورده في «عمدة القاري» فقال: قلت: يجوز أن يكون دلكه، لكنه بقي وبيصه، والطيب إذا كان كثيرًا ربما غسله، فيذهب، ويبقى وبيصه.

وفيه: عدم كراهة كثرة الجماع عند النظافة، وفيه: عدم كراهة التزوج بأكثر من واحدة إلى أربع.

وفيه: أن غسل الجنابة ليس على الفور، وإنما يتضيق على الإنسان عند القيام إلى الصَّلاة، وهذا بالإجماع، والسبب في وجوب الغسل: الجنابة مع إرادة القيام إلى الصَّلاة، كما أن سبب الوضوء: الحدث مع إرادة القيام إلى الصَّلاة، وليس الجنابة وحدها، كما زعمه بعض الشافعية، وإلا؛ يلزم أن يجب الغسل عقيب الجماع، والحديث ينافي هذا، ولا مجرد إرادة الصَّلاة، وإلا؛ يلزم أن يجب الغسل بدون الجنابة (١)، انتهى، والله تعالى أعلم.

[حديث أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة]

٢٦٨ - وبه قال: (حدثنا محمَّد بن بشار) : هو المتقدم قريبًا (قال: حدثنا مُعُاذ) بضمِّ الميم، وفتح المهملة، آخره معجمة (بن هشام) : هو الدستوائي (قال: حدثني) بالإفراد (أبي) : هو هشام المذكور، والدُّسْتُوَائي؛ بالدال المهملة المضمومة، وسكون السين المهملة، وضم المثناة الفوقية، وفتح الواو، آخره همزة، (عن قَتَادَة) بفتحات: هو الأكمه السدوسي صاحب التفسير (قال: حدثنا أنس بن مالك) رضي الله عنه، وسقط (ابن مالك) لابن عساكر، وفيه أن رواته كلهم بصريون، كما قاله في «عمدة القاري» (قال) أي: أنس: (كان النبيُّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم) وأفاد بلفظ (كان) الدوام والاستمرار (يدور على نسائه) الطاهرات، قال في «عمدة القاري» : (ودورانه عليه السلام في ذلك يحتمل وجوهًا:

الأول: أن يكون ذلك عند إقباله من السفر؛ حيث لا قسم يلزم؛ لأنَّه كان إذا سافر؛ أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج اسمها؛ سافر بها، فإذا انصرف؛ استأنف القسمة بعد ذلك، ولم تكن واحدة منهنَّ أولى من صاحبتها بالبداءة، فلما استوت حقوقهن؛ جمعهن كلَّهن في وقت، ثم استأنف القسم بعد ذلك.

الثاني: أن ذلك كان بإذنهن ورضاهن، أو بإذن صاحبة النوبة ورضاها؛ كنحو استئذانه منهن أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها، قاله أبو عبيد.

الثالث: قاله المهلب: إنَّ ذلك كان في يوم فراغه من القسم بينهن، فيقرع في هذا اليوم لهن أجمع، ثم يستأنف بعد ذلك.

قلت: هذا التأويل عند من يقول بوجوب القسم عليه صلَّى الله عليه وسلَّم في الدوام، كما يجب علينا وهم الأكثرون، وأما من لا يوجب؛ فلا يحتاج إلى تأويل.

وقال ابن العربي: «إن الله خص نبيه عليه السلام بأشياء؛ أعطاه ساعة لا يكون لأزواجه فيها حق حتى يدخل فيها على جميع أزواجه، فيفعل ما يريد بهن، ثم يدخل عند التي يكون الدور لها»، وفي كتاب «مسلم» : عن ابن عباس أن تلك الساعة كانت بعد العصر) انتهى كلام «عمدة القاري».

واعترض ابن حجر على ابن العربي بعد ما نقل عبارته فقال: (ويحتاج إلى ثبوت ما ذكره مفصلًا) انتهى.

قلت: ولا يخفى أن كلامه مبني على قول من لا يوجب القسم عليه صلَّى الله عليه وسلَّم، والأشياء التي أعطيها كثيرة لا يمكن تفصيلها، ومنها: القوة على ذلك، فإن ذلك غريب عادة طبعًا وطبًّا، فهي قوة خصوصية له عليه السلام، وهي ثابتة في هذا الحديث وغيره، والخصائص التي اختص بها لها كتب عديدة مفصلة فيها بدليل من الأحاديث العديدة، فكيف قال ابن حجر ما قال؟ فليحفظ، وقد ألف الشيخ الإمام خاتمة المحدثين شيخ مشايخنا الشهاب أحمد المنيني شارح «البخاري» كتابًا في الخصائص نظمًا، وشرحه شرحًا مفيدًا، وقد قرأته ولله الحمد على بعض شيوخي في رمضان سنة خمس وسبعين ومئتين وألف، وللسيوطي أيضًا كتاب في الخصائص وغيره، والله أعلم؛ فافهم.

(في الساعة الواحدة)؛ المراد بها: الحصة، وهي قدر من الزمان لا الساعة الرملية التي هي خمس عشرة درجة (من الليل والنهار)، (الواو) فيه بمعنى (أو)، كذا قاله في «عمدة القاري»؛ كالكرماني.

وزعم ابن حجر: (أنه يحتمل أن تكون على بابها بأن تكون تلك الساعة جزءًا من آخر أحدهما، وجزءًا من أول الآخر) انتهى.

قلت: هذا ليس بظاهر؛ لأنَّ قول ابن عمر السابق: (ثم يصبح محرمًا)


(١) في الأصل: (الغسل)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>