على أنه لا يقر عليه، ومعلوم أنه عليه السلام درجته فوق الخلق؛ فلم ينزه عن العوارض البشرية فقد سها في الصلاة؛ فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه؛ فيتوقف في هذه الحالة حتى يتبين حقيقته؛ فلهذا توقف عمر في ذلك وتركه عليه السلام ولم ينكر عليه، وهو دليل على استصوابه، فالأمر في (ائتوني) وإن كان حق المأمور أن يبادر للامتثال، لكن ظهر لعمر مع طائفة أنه ليس للوجوب، وأنه من باب الإرشاد إلى الصلح، فكرهوا أن يكلِّفوه من ذلك ما يشقُّ عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: ٣٨]، ولهذا قال عمر: (حسبنا كتاب الله).
(فاختلفوا)؛ أي: الصحابة في ذلك وظهر لطائفة أخرى أن الأولى: أن يكتب لما فيه من امتثال أمره وما يتضمَّنه من زيادة الإيضاح، (وكثُر)؛ بضم المثلثة، (اللَّغط)؛ بتحريك اللام والغين المعجمة، الصوت والجلبة، فاختلفوا والحال أنهم قد كثر لغطهم بسبب ذلك فلما رأى عليه السلام ذلك؛ (قال)، وفي رواية: (فقال)؛ بفاء العطف، وفي أخرى: (وقال)؛ بواوه: (قوموا عني)؛ أي: قوموا متبعدين عن جهتي، (ولا ينبغي) لا يطلب، (عندي التنازعُ)؛ بالرفع فاعل (ينبغي)؛ أي: الاختلاف والتجادل، وهو دليل على أن أمره الأول كان على الاختيار وأن ما اختاره عمر صوابًا، ولهذا عاش عليه السلام بعد ذلك أيامًا، ولم يعاود أمرهم بذلك، ولو كان واجبًا؛ لم يتركه؛ لاختلافهم؛ لأنَّه لم يترك التكليف؛ لمخالفة من خالف؛ فليحفظ.
(فخرج ابن عباس يقول) ظاهره: أن ابن عباس كان معهم، وأنه في تلك الحالة خرج قائلًا هذه المقالة، وليس كذلك؛ بل قول ابن عباس إنَّما كان تقوله عندما تحدث بهذا الحديث لما عند المؤلف في (الاعتصام)، قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول وكذا لأحمد ولأبي نعيم، قال عبيد الله: فسمعت ابن عباس يقول، ووجه رواية حديث الباب أن ابن عباس لما حدث عبيد الله بهذا الحديث؛ خرج من المكان الذي كان فيه وهو يقول، وإنما تعين حمله على غير ظاهره؛ لأنَّ عبيد الله تابعي من الطبقة الثانية لم يدرك القصة في وقتها؛ لأنَّه ولد بعد النبي الأعظم عليه السلام بمدة طويلة ثم سمعها من ابن عباس بعد ذلك بمدة أخرى.
(إن الرَّزِيَّئة)؛ بفتح الراء، وكسر الزاي، بعدها تحتية ثم همزة، وقد تسهل الهمزة وتشديد الياء التحتية ومعناها: المصيبة، (كل الرزيئة)؛ بالنصب على النيابة عن المصدر، ومثل هذا يعد من المفاعيل المطلقة أو على التأكيد.
(ما) : موصولة؛ بمعنى: الذي، (حالُ) : صلتها محله الرفع خبر (إن) حجز؛ أي: صار حاجزًا، (بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه)؛ فكان ابن عباس من الطائفة التي ظهر لها أن يكتب؛ لما فيه من الامتثال وزيادة الإيضاح.
وفيه: دليل على أن عمر أفقه من ابن عباس؛ حيث اكتفى بالقرآن.
وفيه: دليل على إباحة الاجتهاد؛ لأنَّه وكَّلهم إلى أنفسهم.
وفيه: بطلان ما زعمه الشيعة من وصاية النبي الأعظم عليه السلام بالإمامة؛ لأنَّه لو كان عند علي عهد من النبي عليه السلام؛ لأحال عليها.
وفيه: دلالة على أن للإمام أن يوصي عند موته بما يراه نظرًا للأمة وكذا غيره.
وفيه: دلالة على جواز كتابة الحديث، ويعارضه ما في مسلم مرفوعًا: «لا تكتبوا عني شيئًا غير القرآن».
وأجيب: بأن النهي خاص بوقت نزول القرآن؛ خشية التِبَاسهِ بغيره والإذن في غير ذلك، أو الإذن ناسخ؛ للنهي عند الأمن من الالتباس، أو النهي خاص بمن خشي منه الاتكال على الكتاب دون الحفظ، والإذن لمن أمن منه ذلك.
وكره جماعة من الصحابة والتابعين كتابة الحديث، واستحبُّوا أن يؤخذ عنهم حفظًا كما أخذوا حفظًا، لكن لما قصرت الهمم وخشي الضياع؛ دونوه، وأول من دوَّن الحديث: ابن شهاب الزهري على رأس المئة بأمر عمر بن عبد العزيز، وأوَّل من دوَّن الفقه ورتبه: إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل، ولما رآه مالك؛ شرع في «الموطأ» ودوَّنه ورتَّبه، وتبعه بعد ذلك المحدثون والفقهاء وغيرهم، ففضله عامٌّ على الجميع، وإنما يعرف الفضل من الناس ذووه، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الجنة مسكنه ومأواه.
(٤٠) [باب العلم والعظة بالليل]
هذا (باب) تعليم (العلم والعِظة)؛ بكسر العين؛ أي: الوعظ، وفي بعض النسخ: (واليقظة) وهو أنسب للترجمة كما قاله في «عمدة القاري»، (بالليل)؛ ليدل على الاجتهاد وشدة التحصيل.
[حديث: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن وماذا فتح من الخزائن]
١١٥ - وبه قال: (حدثنا صدقة) : ابن الفضل المروزي، أبو الفضل المنفرد بالإخراج عنه المؤلف عن الستة، المتوفى سنة ثلاث أو ست وعشرين ومئتين، (قال: أخبرنا ابن عُيينة)؛ بضم العين: سفيان، (عن مَعْمَر)؛ بفتح الميمين بينهما مهملة ساكنة، ابن راشد، (عن الزهري) : محمد بن مسلم، (عن هند) بنت الحارث الفِرَاسية؛ بكسر الفاء وبالسين المهملة، ويقال: (القُرشِية)؛ بضم القاف وكسر الشين المعجمة، زوجة معبد بن المقداد، وفي رواية: (عن امرأة)، فالزهري تارة سمَّاها باسمها، وتارة أبهمها.
(عن أم سَلَمَة)؛ بفتح اللام والسين المهملة، هند أو رملة زوج النبي الأعظم عليه السلام، بنت أبي أمية حذيفة، أو ابنة سهيل بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، كانت عند أبي سلمة فتوفى عنها، فتزوجها النبي الأعظم عليه السلام في شوال سنة أربع، وتوفيت سنة تسع وخمسين في خلافة يزيد بن معاوية، وولايته كانت في رجب سنة ستين، وتوفي سنة أربع وستين في ربيع، وكان لها حين توفيت أربع وثمانون سنة، وصلى عليها أبو هريرة في الأصحِّ، ودفنت بالبقيع اتفاقًا.
(وعمروٍ) : هو ابن دينار؛ بالجر عطفًا على معمر، يعني ابن عيينة، يروي عن معمر بن راشد وعن عمرو بن دينار، (و) عن (يحيى بن سعيد) الأنصاري، ومن زعم أنه يحيى بن سعيد القطان؛ فقد أخطأ؛ لأنَّه لم يسمع من الزهري ولا لقيه، فهؤلاء الثلاثة يروون (عن) ابن شهاب (الزهري)، ويجوز في (عمرو) الرفع؛ كما في رواية على أن يكون استئنافًا، وعادة ابن عيينة يحدث بحذف صيغة الأداة، و (يحيى) يجوز فيه الجر والرفع عطفًا على (عمرو).
(عن هند)، وفي رواية: (عن امرأة)؛ كما مر، (عن أم سلمة) رضي الله عنها أنها (قالت: استيقظ)؛ بمعنى: تيقظ، فالسين ليست للطلب هنا، ومعناه: انتبه من النوم، (النبي) الأعظم، وفي رواية: (رسول الله)، (صلى الله عليه وسلم ذات ليلة)؛ أي: في ليلة، ولفظة (ذات) مقحمة للتأكيد، قال الفاضل جار الله الزمخشري: هو من إضافة المسمى إلى اسمه، وكان عليه السلام في بيت أم سلمة؛ لأنَّها كانت ليلتها، وتمام تحقيقه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(فقال) : عطف على (استيقظ)، (سبحان الله) : مقول القول، و (سبحان) علم للتسبيح، وانتصابه على المصدرية، والتسبيح لغة: التنزيه؛ أي: أنزِّه الله تنزيهًا عما لا يليق به، واستعماله هنا للتعجب؛ لأنَّ العرب قد تستعمله في مقام التعجب.
(ماذا) فيه أوجه؛ لأنَّه إما أن تكون (ما) استفهامًا و (ذا) إشارة نحو: ماذا الوقوف.
أو تكون (ما) استفهامًا و (ذا) موصولة؛ بمعنى: الذي.
أو تكون (ماذا) بتمامها استفهامًا.
أو تكون (ما) نكرة موصوفة؛ بمعنى: شيء.
أو تكون (ما) زائدة و (ذا) للإشارة.
أو تكون (ما) استفهامًا و (ذا) زائدة، كما أوضحه في «عمدة القاري».
(أُنزل)؛ بضم الهمزة على صيغة المجهول، وفي رواية: (أنزل الله)، (الليلةَ)؛ بالنصب على الظرفية للإنزال، والإنزال لغة: الإيواء، كما يقال: أنزل الجيش بالبلد، أو تحريك الشيء من علو إلى سفل، والمعنيان لا يتحقَّقان في أنزل الله؛ فهو مستعمل في معنى مجازي؛ بمعنى: أعلم الله الملائكة بالأمر المقدر، وكذا المعنى في أنزل الله القرآن، فمن قال: إن القرآن معنى قائم بذات الله تعالى فإنزاله: أن يوجد الكلمات والحروف الدالة على ذلك المعنى، ويثبتها في اللوح المحفوظ، ومن قال: إن القرآن هو الألفاظ؛ فإنزاله مجرَّد إثباته في اللوح المحفوظ؛ لأنَّ الإنزال إنَّما يكون بعد الوجود، والمراد بإنزال الكتب السماوية: أن يتلقاها الملك من الله تلقيًا روحانيًا، أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها فيلقيها على الأنبياء عليه السلام، وكان عليه السلام أوحي إليه في يومه ذاك بما سيقع بعده.
(من الفتن) فعبَّر عنه بالإنزال، (وماذا) فيه الأوجه المارة، (فُتح من الخزائن)؛ بضم الفاء، عبَّر عن العذاب بـ (الفتن)؛ لأنَّها أسبابه، وعن الرحمة بـ (الخزائن)؛ لقوله تعالى: {خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [ص: ٩]، يعني: أن النبي الأعظم عليه السلام رأى في تلك الليلة المنام،