للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

التي لا غُبار عليها؛ لأنَّه لو كان مُعتبرًا؛ لَما نَفخ عليه السَّلام في يديه.

وفي الحديث دليلٌ على أنَّ النَّفخ مطلوبٌ وهو سُنة أو مُستحب، وقدمنا أنَّه ينفخ مرةً أو مرتين، وظاهر الحديث يدلُّ على الأول.

وفيه دليل على جواز الاجتهاد في عصره عليه السَّلام، وهو قول الجمهور مُطلقًا سواء كانوا غائبين أم حاضرين عنده عليه السَّلام.

وفيه دليل على أنَّ المسافر له أن يطأ جاريته وإن علم أنَّه لا يجد الماء.

وفيه دليل على استحباب تأخير التَّيمم إلى آخر الوقت المستحب؛ لأنَّه ربَّما يجد الماء فيؤدِّي العبادة بأكمل الطَّهارتين، والله تعالى أعلم، وأستغفر الله العظيم.

اللهم؛ اقض عني الدين، وارزقني رزقًا حلالًا بلا تعب، وفرِّج عني ما أهمَّني، ووفِّق أمَّة نبيك الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لما تحب وترضى إنك على ما تشاء قدير.

(٥) [باب التيمم للوجه والكفين]

هذا (بابٌ)؛ بالتنوين خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: ما ذكرنا، وقوله: (التَّيمم) مُبتدأ؛ أي: في بيان أنَّ التَّيمم ضربةٌ واحدة (للوجه)، وقوله: (والكفين) عطف على (الوجه) أي: وخبرُ المُبتدأ محذوف؛ أي: التَّيمم ضربة واحدة للوجه والكفين، ويقدر بعد ذلك لفظة (جوازًا)؛ يعني: من حيث الجواز؛ وتقديره (وجوبًا)؛ يعني: من حيث الوجوب، والمقصود منه: إثبات أنَّ التَّيمم ضربةٌ واحدةٌ، سواء كان وجوبًا أو جوازًا، ومعنى أحاديث هذا الباب: هو معنى الحديث الذي في الباب السابق، غير أنَّه رُوِي هناك عن آدم، عن شُعبة مرفوعًا، وههنا أخرجه عن سِتة مشايخ؛ كلهم عن شُعبة؛ ثلاثةٌ منها موقوفةٌ، وثلاثةٌ مرفوعةٌ، كما ستقف عليها، كذا قاله إمام الشَّارحين، واعترضَ عليه القسطلاني بأنَّ تقيده بـ (ضربة واحدة) قد عقد له المؤلف بابًا مستقلًّا.

قلتُ: وهذا الاعتراض غير ظاهر، ولا يصدر إلا من مُكابرٍ، فإنَّ أحاديث هذا الباب السِّتة كلُّها صريحةٌ في أنَّ الضربة واحدة؛ لأنَّه لم يذكر غيرها، فهي صريحة بالوحدة على أنَّه هي محلُّ الخِلاف بينها وبين الضربتين، ولو كانت ليست واحدة؛ لبيَّنَ في الأحاديث أنَّها أكثر، واقتصاره فيها على الضرب يقتضي الوحدة، والتَّرجمة لم تُصرح بالضرب أيضًا، ولا أنَّه واحد، فأحال ذلك على الأحاديث التي سيذكرها، كما لا يخفى، وزعم ابن حجر باب (التَّيمم للوجه والكفين) أي: هو الواجب المجزئ، وأتى بذلك بصيغة الجزم مع شُهرة الخِلاف فيه؛ لقوة دليله، فإنَّ الأحاديث الواردة في صفة التَّيمم لم يَصح منها سوى حديث أبي جُهَيْم وعمَّار، وما عداهما؛ فضعيف أو مُختَلفٌ في «الصَّحيحين»، ويذكر المرفِقين في رفعه، ووقفه، والرَّاجح عدم رفعه، أما حديث أبي جُهَيْم؛ فورد بذكر اليدين مجملًا، وأما حديث عمَّار؛ فورد بذكر الكعبين في السُّنن، انتهى.

ورَدَّه إمام الشَّارحين فقال: قلتُ: تقييده بالوجوب لا يُفهم منه أصلًا؛ لأنَّه أعم من ذلك؛ يعني: يشمل الجائز، فإنَّ التَّيمم يكون فرض عينٍ للمحدث، وأراد صلاة الفرض، ويكون فرضًا على الكفاية للمحدث لصلاة الجنازة، ويكون واجبًا للطواف، ويكون مندوبًا للنوم على طهارة، ولمسِّ الكُتب الشَّرعية؛ كالحديث، والفقه، وغير ذلك، فالمُراد: الأعم، وهو مُراد المؤلف؛ حيث أطلق كلامه، فتقييد هذا القائل بالواجب غير صحيح، كما لا يخفى.

وقوله: (لم يَصح منها سوى حديث أبي جُهَيْم وعمَّار) غير مُسلَّم؛ لأنَّا قد ذكرنا أنَّه رَوى فيه عن جابر مرفوعًا: «أنَّ التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين»، وأن الحاكم قال: (إسناده صحيح)، وأن الذهبي قال: (إسناده صحيح)، ولا يُلتفت إلى قول من يمنع صِحته، لا يُقال: (رواه جماعة موقوفًا)؛ لأنَّا نقول: قوله أقوى وأثبت؛ لأنَّه استندَ من وجهين.

قلت: وكذا روى البيهقي بإسنادٍ صحيحٍ مرفوعًا: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين»، وكذا رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ، فكيف يقول هذا القائل: (لم يَصح منها...) إلخ؛ ما هذا إلا مُكابرة؟

وقوله: (أمَّا حديث أبي جُهَيْم)؛ فورد بذكر اليدين مُجملًا غير صحيح، ولا يُطلق فيه حدُّ الإجمال، بل هو مطلق يتناول إلى الكفين، وإلى المرفقين، وإلى ما وراء ذلك، ولكن رواية الدَّارقطني في هذا الحديث خصصته وفسرته بقوله: (فمسح بوجهه وذراعيه).

فإن قلت: هذا القائل لم يُرِد الإجمال الاصطلاحي، بل أراد: الإجمال اللُّغوي.

قلتُ: إن كان كذلك، فحديث الدَّارقطني أوضحه وكشفه، انتهى.

قلتُ: وقوله: (وأمَّا حديث عمَّار...) إلخ غير صحيح؛ لأنَّ رواية ذكر الكعبين في السنن ضعيفةٌ جدًّا؛ لأنَّ في سنده مجهولين (١)، بل الرواية الصحيحة عن عمَّار، كما رواها أبو داود مرفوعًا إليه عليه السلام: «أنَّه ضرب بيديه الأرض، ثُمَّ نفخهما، ثم مسح بهما وجهه ويديه»، وكذا أخرجه بقية الستة، وقوله: (والرَّاجح عدم رفعه) : غير صحيح، بل الرَّاجح أنَّه: مرفوع، وهو ما عليه الجمهور؛ فليحفظ.

[حديث عمار وفيه: ثم مسح وجهه وكفينه]

٣٣٩ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا حجاج) هو ابن مِنهال؛ بكسر الميم (قال: أخبرنا شُعبة) هو ابن الحجاج (قال: أخبرني)؛ بالإفراد (الحَكَم)؛ بفتحتين: هو ابن عُتيبة؛ بضمِّ العين المهملة، وفي رواية: (عن الحَكَم) (عن ذَرٍّ)؛ بتشديد الراء: هو ابن عبد الله الهمْداني، (عن سَعِيْد) بكسر العين المهملة (بن عبد الرحمن)، وفي رواية: (عن ابن عبد الرحمن) (بن أَبْزَى) بفتح الهمزة، وسكون الموحدة، وفتح الزَّاي، (عن أبيه) هو عبد الرَّحمن بن أبْزَى، الصَّحابي الخزاعي الكوفي، (قال عمَّار) بتشديد الميم: هو ابن ياسر رضي الله عنه (بهذا) أشار به إلى سياق المتن الذي قبله من رِواية آدم عن شعبة، وهو كذلك إلا أنَّه ليس في رواية حجاج هذه قصة عمر رضي الله عنه؛ فافهم.

وقوله: (وضَرب شعبة) مقول الحجاج (بيديه الأرض)؛ بالتثنية، (ثم أدناهما) أي: قربهما (من فيه) وهو كناية عن النَّفخ، وفيه إشارة إلى أنَّه كان خفيفًا، وفي رواية سليمان بن حرب: (تفل فيهما)، والتفل: دون البزاق، والتفث دونه، قاله أهل اللغة.

قلت: وفيه دليل على أنَّه لم يبق عليهما من الغبار شيئًا؛ لأنَّ النَّفخ أو التَّفل يُزِيل أثرَ التُّراب والغُبار بالكلية، كما لا يخفى.

(ثُمَّ مسحَ بهما وجهه) مستوعبًا فيخلِّل اللحية، ويمسح العذار، والوترة، وما تحت الحاجبين، والموقين، وفيه دليل على أنَّه يُشْترط المسح بجميع اليد أو أكثرها، (وكفيه) إلى الرُّسغين، كما ذهب إليه أحمد، والحسن بن زياد، والجُمهور: على أنَّه بضربتين؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين، وقال الإمام زفر: لا يُشترط مسح المرفقين؛ لِمَا في رواية أبي داود في هذا الحديث عن عمَّار مرفوعًا: (ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نِصف الذِّراع)، وسنده صحيح، وفي لفظٍ: (إلى نصف السَّاعد، ولم يبلغ المرفقين ضربة واحدة)، وفي رواية شك سَلَمَة بن كهيل قال: (لا أدري فيه إلى المرفقين؛ يعني أو إلى الكعبين)، ورواه شعبة عنه: (إلى المرفقين أو الذِّراعين).

قلت: وقدمنا في الباب قبله دلائل المذهب المعظم وبقية الأئمَّة؛ فلا تغفل، قال إمام الشارحين: قد ذكرنا أنَّ البخاري أخرج هذا الحديث في هذا الباب عن ستة من المشايخ؛ الأولُّ: موقوف برواية عن حجاج إلى آخره، وأخرجه الحافظ أبو جعفر الطَّحاوي قال: حدثنا محمَّد بن خزيمةقال: حدثنا حجاج قال: أخبرنا شعبة قال: أخبرني الحكم، عن ذر، عن عبد الرحمن


(١) في الأصل: (مجهولان)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>