للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فيه ضربتين.

ومنها: ما رواه البيهقي بسندٍ صحيحٍ عن عمَّار قال: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال له: «التَّيمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين».

وأمَّا الآثار؛ فمنها: ما رواه الإمام محمَّد بن الحسن عن الإمام الأعظم أبي حنيفة قال: حدثنا حمَّاد عن إبراهيم في (التَّيمم) قال: (تضع راحتيك في الصَّعيد، فتمسح وجهك، ثم تضع الثَّانية، فتمسح يديك وذراعيك إلى المرفقين)، قال محمَّد: وبه نأخذ.

ومنها: ما رواه الإمام الحافظ أبو جعفر الطحاوي من حديث قَتَادة عن الحُسين أنَّه قال: (التَّيمم ضربةٌ للوجه والكفين، وضربةٌ للذِّراعين إلى المرفقين).

ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة في «مُصنفه» : حدثنا ابن عليَّة، عن داود بن الشَّعبي قال: (التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين)، وروي عن إبراهيم، وطاووس، وسالم، والشَّعبي، وسَعِيْد بن المُسيِّب مثله.

وأمَّا القياس؛ فلأنَّ التيمم خلفٌ عن الوضوء؛ فيجب أن يكون مثله، لكن لمَّا كان التَّيمم شُرع لأجل الرُّخصة؛ تُرِك فيه الرأس والرجلان، فبقي الوجه واليدان، والدَّليل على أنَّه كالوضوء: أنَّه أعطي أحكامه من عدم اشتراط الترتيب فيه، ومن طُروء النَّواقض عليه، وطهارة الصَّعيد كالماء، وغير ذلك مِّما لا يخفى.

وروى الإمام الحسن بن زياد عن الإمام الأعظم: (أنَّ التَّيمم ضربةٌ للوجه، وأخرى لليدين إلى الرُّسغين)، ورُوِي ذلك عن ابن عباس، وهو قول الأوزاعي، والأعمش، وعبد الحكم، والشَّافعي في القديم.

ومالك في رواية لما رواه الدَّارقطني قال: (ما تمرغ عمَّار وسأل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فضرب بكفيه الأرض، ثُمَّ نفضهما)، وقال: (تمسح بهما وجهك، وكفيك إلى الرُّسغين)، وعند الأشرم من روايته عنه: (ثُمَّ تمسح بوجهك وكفيك إلى الرسغين).

وفي «الأوسط» للطَّبراني: عن عمَّار: (تمسح وجهك وكفيك بالتراب ضربة للوجه، وضربة للكفين).

قلتُ: ولا دلالة لهم في هذا، فإنَّ حديث الدَّارقطني ضعيف؛ لأنَّه لم يروه عن حُصين مرفوعًا غير إبراهيم بن طهمان، وأوقفه شُعبة، وزائدة، وغيرهما، وما رواه الأشرم؛ فإنَّ في سنده مجهول، وما رواه الطَّبراني؛ فإنَّه لم يروه عن سَلَمَة بن كهيل عن سعد بن أَبْزَى إلا إبراهيم بن محمَّد الأسلمي، وعلى كلٍّ؛ فهذه الأحاديث لا يُحتج بها مع وجود الأحاديث، والآثار السَّابقة التي علمتها، فإنَّ الصَّحيح لا يُقاوم الضَّعيف.

وذهب أحمد ابن حنبل، وعطاء، وإسحاق: إلى أن التَّيمم ضربة للوجه والكفين إلى الرسغين، وهو قول الطَّبري، والشَّعبي في رواية، والأوزاعي في رواية، فلا يجب عندهم المسح إلى المرفقين، ولا الضَّربة الثَّانية، واستدلوا بحديث الباب.

قلتُ: ولا دِلالة فيه لهم؛ لأنَّ الحديث فيه طيٌّ؛ لأنَّه رُوِي مختصرًا (١) هنا، ورواه الأئمَّة الستة مطولًا، فقوله: (ثُمَّ مسح بهما وجهه وكفيه) يعني: وضرب ضربة أخرى للذِّراعين إلى المرفقين، يدلُّ لهذا: ما قدمنا في حديث أبي داود، عن عمَّار: (فأمر المسلمين فضربوا بأكفهم التُّراب، ولم يقبضوا من التراب شيئًا، فمسحوا وجوههم مسحةً واحدةً، ثُمَّ عادوا فضربوا بأكفهم الصَّعيد مرةً أخرى فمسحوا بأيديهم).

وفي «المعجم الكبير» للطَّبراني: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين، فهذا يدلُّ على أنَّ الحديثَ مختصرٌ، فلا دليلَ لهم فيه على أنَّ ما يُمسح به وجهه يصير مستعملًا، وقد أمر الله تعالى بالصَّعيد الطَّيب، فكيف يَمسح به كفيه؟

وأجيب: بأنَّه يُمكن أنْ يَمسح الوجه ببعض الكفين، والكفين بباقيهما.

قلتُ: وهذا فيه حرج وعُسر، وقد أُمرنا بالتَّيسير، {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨]، ففي هذه الكيفية حرج، وهو مدفوع بالنَّص.

وذهب محمَّد بن سيرين: إلى أنَّ التَّيمم ثلاث ضربات: ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للكفين، وضربةٌ للذِّراعين، ورُوِي عنه: (ثلاثُ ضرباتٍ الثَّالثة لهما جميعًا).

وقال ابن شهاب الزُهْرِي: (التَّيمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين يَبلغ بها إلى الإباط).

ويدلُّ لهذا: ما رواه أبو داود بسندٍ صحيحٍ مُتصلٍ عن عُبيد الله، عن ابن عباس، عن عمَّار قال: (فقام المسلمون مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فضربوا بأيديهم إلى الأرض، فمسحوا بها وجوههم، وأيديهم إلى المناكب، ومن بطون أيديهم إلى الإباط).

وفي «المُعجم الكبير» للطَّبراني: (وضربةٌ لليدين إلى المنكبين ظهرًا وبطنًا)، وفي لفظ: (ومن بطون أيديهم إلى الإبط)، وفي لفظ: (إلى المناكب).

قلتُ: وهذا لا يدلُّ لمدعاه؛ لأنَّ الرِّوايات عن عمَّار قد اختلفت، وأصحُّ الرِّوايات عنه ما قدمناه، والمُراد هنا: هو صورة التَّعليم والتَّقريب، وليس المُراد: جميع ما يحصل به التَّيمم، وهذا مخالفٌ لما سبق، ففيهِ دلالة إلى أنَّه انتهى إلى ما عِمَلَهُ النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.

وقال ابن أبي حازم: لا يخلو أن يكون حديث عمَّار بأمرٍ أولًا، فإنْ يكن من غير أمرٍ؛ فقد صحَّ عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم خِلافه، وإنْ كان عن أمرٍ؛ فهو منسوخ، وناسِخه حديث عمَّار أيضًا، انتهى، كذا قرره إمام الشَّارحين.

قلتُ: والظَّاهر: أنَّ هذه الأحاديث المُختلفة المُضطربة المَرويَّة عن عمَّار كانت قبل نُزول آية التَّيمم؛ لأنَّ هذه الصِّفات فعلها عمَّار باجتهادٍ منه، وسأل عنها النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، فتوقف النَّبيُّ عن الجواب حتى نزلت آية التَّيمم، وهي تدلُّ على: ضربتين؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين قياسًا على الوضوء، وإتباعًا لما رُوِي في ذلك من الأحاديث التي قدَّمناها؛ فإنَّها تدلَّ على الضَّربتين، والظَّاهر أنَّها كانت آخرًا، فهي ناسخةٌ لما تقدمها من الصِّفات؛ فإنَّ الله تعالى قد أوجب غسل اليدين إلى المرفقين في الوضوء، ثم قال في (التَّيمم) : {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: ٤٣]، واليد المطلقة هنا هي المقيدة في الوضوء من أوَّل الآية، فلا يُتْرك هذا الصَّريح إلا بدِلالة صريحٍ، ولمَّا كان التَّيمم خلفًا عن الوضوء؛ أعطي حكمه؛ لئلَّا يزيد الخلف على الأصل، فتعيَّن في التَّيمم الاقتِصار على الوجه واليدين إلى المرفقين؛ إعمالًا للخلفية بقدر الإمكان، وعملًا بالأحاديث الواردة.

ورَجَحت رواية: (إلى المرفقين) بما رواه ابن عُمر، وجابر، والأسلع، وغيرهم رضي الله عنه، فإنَّهم حكوا تيمم النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ بأنَّه ضرب ضربةً للوجه، وضرب أُخرى لليدين إلى المرفقين، والغاية داخلةٌ في المغيَّا عند الإمام الأعظم والجمهور، وقال الإمام زفر: هي غير داخلة، كما قدَّمناه في (الوضوء).

وفي الحديث دليلٌ على صحة القياس؛ لقول عمَّار: (أمَّا أنا؛ فتمعكت)، فإنَّه اجتهد في صفة التَّيمم ظنًّا منه أن حالة الجنابة تخالف حالة الحدث الأصغر، فقاسه على الغسل، وهذا يدلُّ على أنَّه كان عنده عِلم من أصل التَّيمم، ثُمَّ إنَّه لمَّا أخبر به النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم؛ علَّمه صفة التَّيمم، وأنَّه للجنابة والحدث سواء.

وفيه دليل على جواز التَّيمم من الصخرة


(١) في الأصل: (مختصر)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>