لهذا ما أخرجه أبو داود من حديث عبد الله، عن عمَّار: (فأمر المسلمين فضربوا بأكفهم التُّراب، ولم يقبضوا من التراب شيئًا...)؛ الحديث؛ يعني: من شدة النفخ لم يحملا من التراب شيئًا؛ لأنَّ النفض وكذا التَّفل -وهو النفخ الشَّديد- لا سيما دُنوُّهما منه يزيل أثر التراب بالكلية، كما لا يخفى، فهذا يدلُّ لما ذهب إليه الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، والجمهور: من أنه إذا تيمم على صخر؛ جاز؛ لأنَّ الواجب المسح بكفٍّ موضوعٍ على الأرض لا استعمال التراب، وخالفهم الشَّافعية، فزعموا أنه لا بد من التُّراب، وحملوا هذا الحديث على أنَّ النفخ كان لأجل تخفيف التراب وهو محمول على أنَّه كان كثيرًا.
قلتُ: وهذا كلام غير موجه؛ لأنَّ اشتراط التُّراب غير ثابت عند الشَّارع، وإنَّما الثَّابت اشتراط الصَّعيد، وهو وجه الأرض؛ كحجرٍ، ومَدَرٍ، وتُراب، وغير ذلك، وهو ما أجمع عليه أهل التفسير، وأهل اللغة كما سبق، وقولهم: إن النفخ كان لأجل التخفيف كلام فاسد؛ لأنَّه جاء بلفظ (التفل)، وجاء بلفظ (النفض)، وجاء: أنه أدناهما، وهذا كله يدل على أنَّه أزال عنهما التراب بالكلية، وهذا إذا ثبت أنَّه ضَرب يديه على التُّراب، والظاهر منه: أنه ضرب بيديه على الحصى كبارًا وصغارًا، فإنَّ حكمة النَّفض والنَّفخ؛ لأجلألَّا يعلق بهما شيء من ذلك فيؤذي وجهه الشَّريف، ولأنَّه يصير الشخص مثلة في تبديل خلقه وتغيير هيئته، وهو منهيٌّ عنه؛ لأنَّه يصير هزأةً بين الناس لا يقال: إنه أثر عِبَادة؛ لأنَّا نقول التُّراب ملوث مبدِّل للخلقة، فإنَّه وإن كان طهورًا إلا أنه لا يصلح لذلك؛ لاحتمال أنَّه قد دخل الغبار ونحوه بخلاف الماء، فإنه منظف؛ فافهم.
فإن الأرض تُطلق: على الحجر، والمدر، والحصى، وغير ذلك إذا كان منبسطًا، وعلى فرض أنَّه على التُّراب، فالتفل -وهو شدة النفخ- وأدناهما منه دليل واضح على أنه لم يُبْقِ فيهما شيء من التُّراب، كما لا يخفى.
وقولهم: (وهو محمول على أنَّه كان كثيرًا) كلام باطل؛ لأنَّ اليدين إذا ضرب بهما الأرض؛ لم يحملا ترابًا كثيرًا، وإنما يتلوثان بالغبار، كما هو مشاهد لأولي الألباب، فكيف يوصف بالكثير؟ وما هذا إلا تعنت وعناد، ولا حاجة إلى هذا الحمل؛ لأنَّه قد ورد عند أبي داود: (ولم يقبضوا من التراب شيئًا)، كما سبق قريبًا، و (شيئًا) نكرة، وهي في سياق النفي تعمُّ فتشمل القليل والكثير؛ يعني: لم يبق عليهما تراب لا قليلًا ولا كثيرًا؛ فافهم، والله أعلم.
قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة الحديث للتَّرجمة من حيث ذكر النفخ، ولكن ليس في الحديث استفهام فيه، ولهذا قلنا: إن تبويبه بالاستفهام ليس بسديدٍ) انتهى.
قلتُ: واختُلِفَ هل ينفخ مرة واحدة أو مرتين؟
قلتُ: وظاهر الحديث أنَّه ينفض بقدر ما يتناثر التَّراب عنهما؛ لئلَّا يصير مثلة، وبه صرَّح في «الهداية»، فالمقصود: تناثر التُّراب إنْ حصل بمرةٍ؛ اكتفى بها، وإن لم يحصلْ؛ ينفض مرتين، كذا قاله في «البدائع».
(ثم مسح بهما) أي: يديه (وجهه) مستوعبًا، فيخلل لحيته، ويمسح عذاره، والوترة التي بين المنخرين، وما تحت الحاجبين، وموق العينين؛ لأنَّ الاستيعاب شرطٌ على المُختار، وهو ظاهر الحديث، وظاهره أيضًا أنَّه يُشْترط المسح بجميع اليد أو بأكثرها، فلا يجوز أن يمسح بإصبع أو إصبعين، كما في «السِّراج الوهاج»، (وكفيه) فيخلل أصابعه، ويحرك الخاتَم، وظاهر الحديث أنَّه لا يُشترط الترتيب في التيَّمم كأصله؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع عند المحققين، فلا تفيدُ التَّرتيب، ولا التَّعقيب، وهو كذلك لكنَّه سُنة، وظاهر الحديث أيضًا أنَّه على التوزيع، فمسح باليد اليمنى وجهه، وباليسرى كفَّيه؛ لأنَّه لا يشترط المسح باليدين حتى لو مسح بإحدى يديه وجهه، وبالأخرى يده؛ أجزأه في الوجه واليد، ويعيد الضَّرب لليد الأخرى، كذا في «النهر».
واعلم أن: المؤلف لم يسق هذا الحديث بتمامه، والأئمَّة الستة أخرجوه مطولًا ومختصرًا، وكان لعمَّار في هذا الباب أحاديث مختلفة مضطربة، فاختار كل واحد من العلماء حديثًا منها ممَّا صحَّ عنده، فذهب الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، والإمام أبو (١) يوسف، والإمام زُفَر إلى أنَّ التيَّمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين، وهو قول الحسن بن حي، وابن أبي ليلى، واللَّيث بن سعد، وبه قال مالك والشافعي، وهو رواية عن الأوزاعي.
واستدلوا على هذا بأحاديثَ، وآثارٍ، وقياس، أمَّا الأحاديث؛ فمنها: حديث الأسلع بن شُريك التميمي خادم النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، عن النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التيمم ضربتان؛ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين»، رواه الحافظ الطَّحاوي، والطَّبراني، والدَّارقطني، والبيهقي.
ومنها: حديث ابن عمر، رواه الدَّارقطني مرفوعًا من حديث نافع، عن ابن عمر، عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التيمم ضربتان؛ ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين»، قال الدَّارقطني: كذا رواه علي بن طهمان مرفوعًا، ووقفه يحيى القطَّان، وهشيم، وغيرهما، ورواه الحافظ الطَّحاوي من طرق موقوفًا.
ومنها: حديث جابر رواه الدارقطني من حديث أبي الزبير، عن جابر، عن النَّبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ للذراعين إلى المرفقين»، وأخرجه البيهقي أيضًا، والحاكم أيضًا من حديث إسحاق الحربي، وقال: هذا إسناد صحيحٌ، وقال الذَّهبي أيضًا: (إسناد صحيح).
ومنها: حديث أبي أمامة أخرجه الطَّبراني بإسناده إليه عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التَّيمم ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين»، وفيه جعفر بن الزُّبير [وهو] ضعيف.
ومنها: حديث عائشة أخرجه البزَّار بإسناده إليها عن النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التَّيمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين»، وفي إسناده الحويش بن حريث، ضعَّفه أبو زُرْعة.
ومنها: حديث عمَّار رواه أبو داود من حديث عبد الله عن عمَّار قال: (فأمر النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم المسلمين فضربوا بأكفهم التُّراب ولم يقبضوا من التُّراب شيئًا فمسحوا وجوههم مسحةً واحدةً، ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى، فمسحوا بأيديهم)، قال أبو داود: (وكذا رواه ابن إسحاق، قال به عن ابن عباس، وذكر ضربتين، كما ذكره يونس عن الزُهْرِي، ورواه معمر، وذكر ضربتين).
ومنها: حديث عبد الله رواه ابن ماجه من حديث محمَّد بن أبي ليلى القاضي عن الحكم، وسَلَمَة بن كهيل، فإنهما سألا عبد الله بن أبي أوفى عن التَّيمم، فقال: (أمر النَّبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم عمَّارًا أن يفعل هكذا، وضرب بيديه إلى الأرض، ثُمَّ نفضهما، ومسح على وجهه)، قال الحكم: (ويديه)، وقال سَلَمَة: (ومرفقيه).
ومنها: ما رواه أبو داود: قال: حدثنا موسى بن إسماعيل: حدثنا أبان، عن قتادة، عمن حدثه، عن الشَّعبي، عن عبد الرَّحمن بن أَبْزَى، عن عمَّار قال: إنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «التَّيمم ضربتان؛ ضربةٌ للوجه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين»، ورواه ابن أبي ذئب، عن الزُهْرِي، فذكر
(١) في الأصل: (أبي)، وليس بصحيح.