للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

فحذفت الهمزة الأصلية؛ للاستثقال، فصار (أمرنا)، فاستغني عن همزة الوصل فحذفت، فبقي (مُر) على وزن (عُل)؛ لأنَّ المحذوف فاء الفعل.

(نخبر به مَن)؛ أي: الذي استقرَّ، (وراءَنا)؛ أي: خلفنا مِن قومنا الذين خلَفناهم في بلادنا، و (نخبر) بالجزم جوابًا للأمر، وبالرفع لخلوِّه من ناصبٍ وجازم، والجملة في محلِّ جرِّ صفة لـ (أمر)، (وندخل به الجنة) إذا قُبِل بفضله تعالى، ويجوز الجزم والرفع في (ندخل) كـ (نخبر)؛ عطفًا عليها، لكن يتعيَّن الرفع في هذه على رواية إسقاط الواو، وتكون الجملة مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب.

(وسألوه) عليه السلام (عن الأشربة)؛ أي: عن ظروفها، أو سألوه عن الأشربة التي تكون في الأواني المختلفة، فعلى الأول: المحذوف المضاف، وعلى الثاني: الصفة.

(فأمرهم) عليه السلام (بأربع)؛ أي: بأربع جمل أو خصال، (ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده) تفسيرٌ لقوله: (فأمرهم بأربع)، ومن ثَم حذف العاطف، (قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال) عليه السلام: هو (شهادة أن لا إله إلَّا الله وأنَّ محمَّدًا رسول الله)؛ برفع شهادة خبر مبتدأ محذوف، ويجوز الجرُّ على البدلية، (وإقام الصلاة)؛ أي: أدائها بأوقاتها على الوجه المعلوم.

(وإيتاء الزكاة)؛ أي: إعطاؤها في مصارفها، (وصيام رمضان) فيه دليلٌ على عدم كراهة قول رمضان من غير تقييد بالشهر، (و) الخامس (أن تعطوا من المغنم الخُمُس)؛ بضم الخاء المعجمة والميم، وإنما أمرهم بأربع وذكر لهم خمسًا؛ لأنَّهم كانوا مجاورين كفَّارَ مُضر وكانوا أهلَ جهاد وغنائم، فزاد الخامس لذلك، ولم يذكر لهم الحجَّ؛ لكونه على التراخي لا يمنع من الأمر به، وفيه خلاف، فعند الإمام أبي يوسف؛ وهو رواية عن إمامنا الإمام الأعظم: وجوبه على الفور، وعليه الفتوى، وهو مذهب مالك، وعند الإمام محمَّد الشيباني؛ وهو رواية أيضًا عن الإمام الأعظم: أنَّه على التراخي، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل؛ لأنَّ فرض الحج كان بعد الهجرة، وأنَّه عليه السلام كان قادرًا على الحج في سنة ثمان وفي سنة تسع ولم يحجَّ إلَّا في سنة عشر.

وأجيبَ: بأنَّه عليه السلام كان عالمًا بإدراكه فلذلك أخَّره، بخلاف غيره مع ورود الوعيد في تأخيره بعد الوجوب، أو لشهرته عندهم، أو لكونه لم يكن فُرِض؛ لأنَّ قدومهم كان في سنة ثمان قبل فتح مكَّة، وهو فُرِض في سنة تسع على قول، والأصحُّ: أنَّه فُرِض سنة ست كما سيأتي، أو لكونه لم يكن سبيل لهم إليه من أجل كفَّار مُضر.

ثم عطف المؤلف على قوله: (وأمرهم) قوله: (ونهاهم عن أربع: عن الحَنْتَم)؛ أي: عن الانتباذ فيه؛ وهو بفتح المهملة، وسكون النون، وفتح المثناة الفوقية، وهي الجرَّة أو الجِرار الخُضر أو الحمر، أعناقها على جنوبها، أو متخذَة من طين، وشعر، ودم، أو (الحنتم) : ما طُلي من الفخار بالحنتم المعمول بالزجاج وغيره، وسقطت (عن) الثانية لكريمة.

(و) عن الانتباذ في (الدُّباء)؛ بضمِّ المهملة، وتشديد الموحدة، والمدِّ؛ اليقطينُ الكبير الأبيض، (و) عن الانتباذ في (المزفَّت)؛ بالزاي والفاء: ما طلي بالزِّفت، (وربما قال: المقيَّر)؛ بالقاف والمثناة التحتية المشددة المفتوحة؛ وهو ما طلي بالقار، ويقال له: القير؛ وهو نبت يحرق إذا يبس، تطلى به السفن وغيرها كما تطلى بالزفت.

(وقال: احفظوهن وأخبروا بهن)؛ بفتح الهمزة، (مَن وراءَكم)؛ أي: الذين كانوا أو استقروا، فـ (مَن) موصولة مبتدأ، و (وراءكم) خبره، ومعنى النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية بخصوصها؛ لأنَّه يُسرع إليها الإسكار، فربَّما شرب منها مَن لم يشعر بذلك، ثم ثبتت الرخصة في الانتباذ في كلِّ وعاء، مع النهي عن شرب كلِّ مُسكر، ففي «مسلم» : «كنتُ نهيتُكم عن الانتباذ إلَّا في الأسقية فانتبذوا في كلِّ وعاء، ولا تشربوا مُسكرًا»، وهو مذهب إمامنا الإمام الأعظم والجمهور، وهو قول الشافعي، وذهب مالك، وأحمد، وإسحاق إلى أن النهي باقٍ، والصواب الجزم بالإباحة؛ لتصريح النسخ؛ كما علمت، والله أعلم.

وفي الحديث استعانة العالم في تفهيم الحاضرين والفهم عنهم، وفيه استحباب قول: مرحبًا للزائرين، وندب العالم إلى إكرام الفاضل، وفي قوله: (أجعل لك سهمًا من مالي) دليل على جواز أخذ الأجرة على التعليم؛ كما قاله ابن التين، قلت: مذهب إمامنا رأس المجتهدين الإمام الأعظم التابعي الجليل ومَن قال بقوله: أنَّ الاستئجار على الطاعات لا يصح، واستثنى المتأخرون تعليم القرآن، فجوَّزوا الاستئجار عليه؛ لخوف الضياع، والأذان والإمامة؛ للعلة المذكورة؛ لأنَّهما من شعائر الدين، فهذه الثلاثة مستثناة للضرورة.

قال في «الهداية» : الأصل أنَّ كل طاعة يختصُّ بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليها عندنا؛ لقوله عليه السلام: «اقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به...» الحديث، فالاستئجار على الطاعات مطلقًا لا يصح عند أئمتنا الأعلام، اهـ.

فالمُفتَى به: جواز أخذ الأجرة؛ استحسانًا، على تعليم القرآن، لا على القراءة المجرَّدة كما صرح به أئمَّة المذهب، وهو قول أحمد، وعطاء، والضحَّاك، والزهري، والحسن، وابن سيرين، وطاووس، والشعبي، والنخلي، فقارئ القرآن بالأجرة لا يستحق الثواب لا للميت ولا للقارئ؛ لأنَّ الاستئجار على قراءة القرآن باطلة، ولم يفعلها أحد من الخلفاء، وكذا الوصية بذلك باطلة.

وهذا كله مع قطع النظر عما يحصل في زماننا من المنكرات التي يتوصَّلون إليها بحيلة قراءة القرآن والتهاليل؛ من الغناء، والرقص، واللهو، واللعب في بيوت الأيتام، ودق الطبول، وإقلاق الجيران، والاجتماع بحسان المردان، فكل من له معشوق لا يتيسر له الاجتماع به إلَّا في ذلك المكان فيجلس كلٌّ منهم بجنب معشوقه بعد إلقاء العمائم وثقيل الثياب، ويظهرون أنواع الخلاعات والرقص بما يسمونه الحربية، ويهيج بهم الهيام بسماع الغناء بأصوات حسان، وتخلع الولدان، فعند ذلك تذهل العقول ولا يدري شيخهم ما يقول، وتجتمع النسوان من كل مكان، ثم يأكلون الطعام الحرام في بيوت الأيتام، ثم يهبون ما تحصّل منهم في تلك الأوقات الخاسرات إلى روح مَن كان سببًا في اجتماعهم على هذه المنكرات، نعوذ من الجهل العظيم بالله الكريم، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم الحليم.

(٤١) [باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحسبة ولكل امرئ ما نوى]

هذا (باب ما جاء)؛ أي: الذي جاء في الحديث (أن الأعمال)؛ بفتح الهمزة: فاعل (جاء)، وفي رواية: بكسرها، وفي أخرى: (أن العمل)، (بالنية)؛ بالتشديد المثناة التحتية، (والحِسْبة)؛ بكسر الحاء وسكون السين المهملتين: اسم من الاحتساب؛ وهو الأجر والثواب، (ولكل امرئ ما نوى)؛ أي: الذي نواه، ولفظ (الحسبة) من حديث أبي مسعود الآتي، وأدخلها بين الجملتين تنبيهًا على أنَّ التبويب شامل لثلاث تراجم: الأعمال بالنية، والحِسبة، ولكل امرئ ما نوى، وفي رواية: (قال أبو عبد الله البخاري)، وفي أخرى إسقاطها.

(فدخل فيه)؛ أي: في الكلام السابق، (الإيمان) بناء على ما اختاره المؤلف من أن الإيمان؛ عمل، وأما الإيمان بمعنى التصديق فلا يحتاج إلى نية؛ لأنَّ الشارع قال: (الأعمال بالنية) وهي حركات البدن ولا دخل للقلب فيه، وأما الإيمان بمعنى معرفة الله؛ فكذلك لا تحتاج إلى نية؛ لأنَّ المعرفة لو توقفت على النية؛ لزم أن يكون عارفًا بالله قبل معرفته، وهو محال وكذا التسبيح وسائر الأذكار والتلاوة لا يحتاج شيء منها إلى نية التقرب.

(و) كذا (الوضوء) بناء على ما ذهب إليه المؤلف، ومالك، والشافعي، وأحمد، وعند إمامنا الإمام الأعظم، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن حي، لا يدخل.

وقالوا: الوضوء ليس عبادة مستقلة، وإنما هو وسيلة إلى الصلاة، والنبي الأعظم عليه السلام حين علَّم الأعرابي الجاهل الوضوء لم يعلِّمه النية، ولو كانت فرضًا؛ لعلَّمه، وقال الخصم: ونوقضوا بالتيمم، فإنَّه وسيلة وقد اشترط فيه النية عندنا.

قلنا: هذا التعليل ينتقض بتطهير الثوب والبدن عن الخبث؛ فإنَّه طهارة ولم يشترط فيها النية، فإن قالوا: الوضوء تطهير حكمي يثبت شرعًا، غير معقول؛ لأنَّه لا يعقل في المحل نجاسة تزول بالغسل؛ لأنَّ الأعضاء طاهرة حقيقةً وحُكمًا، أما حقيقة فظاهرٌ، وأما حكمًا فلأنه لو صلى إنسان وهو حاملُ مُحدِثٍ؛ جازت صلاته، وإذا ثبت أنه تعبُّدي وحكم الشرع بالنجاسة في حق الصلاة فجعلها كالحقيقة، كان مثل التيمم؛ حيث جعل الشارع ما ليس بمطهر حقيقة مطهرًا حكمًا، فيشترط فيه النية كالتيمم؛ تحقيقًا لمعنى التعبد؛ لأنَّ العبادة لا تتأدّى بدون النية، بخلاف غسل الخبث؛ فإنَّه معقول؛ لما فيه من إزالة عين النجاسة عن البدن أو الثوب، فلا تتوقف على النية.

قلنا: الماء مطهر بطبعه؛ لأنَّه خلق مطهرًا، قال الله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: ٤٨]، كما أنه مزيل للنجاسة ومطهر بطبعه، وإذا كان كذلك؛ تحصل الطهارة باستعماله، سواء نوى أو لم ينوِ، كالنار يحصل بها الإحراق وإن لم يقصد، والحدث يعم البدن؛ لأنَّه غير متجزئ، فيسري إلى جميع الأعضاء، ولهذا يوصف به كله، فيقال: فلان محدث لسائر الصفات؛ لأنَّه ليس بعضُ الأعضاء أولى بالسراية من بعض؛ لأنَّه لو خصص بعض الأعضاء بالحدث؛ لخص موضع خروج النجاسة بذلك؛ لأنَّه

<<  <   >  >>