للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

أعم من التماثيل، انتهى.

قلت: فإذا كان هذا كلامه؛ كيف يعترض عليه؟ وقد يقال هذا على المعنى الثاني الذي ذكرناه.

ورواية الرفع لأبي ذر، ورواية النصب صحح عليها في «الفرع» و «أصله»، ويجوز نصبها بإضمار: أعني، فتكون مفعولة لفعل محذوف، وقال في «المصابيح» عن ابن مالك: (إنه يجوز في رواية الجر كونه معطوفًا بواو محذوفة).

قلت: فيه نظر؛ لأنَّ حروف العطف كأحرف الجر لا تعمل محذوفة، فيتعيَّن كونه بدلًا أو عطف بيان، كما قاله إمام الشَّارحين، وقد صرح أن في رواية الأصيلي: بواو العطف على التماثيل، وعليه؛ فلا حاجة إلى هذا؛ فافهم.

وقد انتهت الجهالة لابن حجر، فزعم أنَّ (الصورُ)؛ بالرفع أي: أنَّ التماثيل مصورة، والضمير في (فيها) على هذا للتماثيل، انتهى.

وردَّه إمام الشَّارحين بأنَّ هذا توجيه من لا يعرف من العربية شيئًا، انتهى.

وتبعه العجلوني فقال: (هو غير ظاهر، سواء كان بيان معنى أو إعراب، وقد يقال: إنَّما هو من قلم الناسخ، فأراد أن يقول: أي: أنَّ «الصور»؛ بمعنى: المصورة مظروفة في التماثيل، ولهذا جعل ضمير «فيها» راجعًا إلى التماثيل لا إلى الكنيسة مع أنه لا يستقيم المعنى؛ لأنَّه يلزم عليه أن تكون التماثيل مصورة في التماثيل) انتهى.

قلت: ولا يلزم أن يقال: (هو من قلم الناسخ)؛ لأنَّ كم مرة ظهر عدم معرفته في علم العربية، وهذا منها، فلا تغترَّ بما قاله؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: (ومطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إنَّ عدم دخوله في كنائسهم لأجل الصور التي فيها، ولولا الصور؛ ما كان يمتنع من الدخول، وعند الدخول لا يمنع الصلاة، فحينئذ صحَّ فعل الصلاة في البيعة من غير كراهة إذا لم يكن فيها تماثيل، ومما يؤيد ذلك ما رواه ابن أبي شيبة في «مصنفه» عن سهل بن سعد، عن حميد، عن بكر قال: كتبت إلى عمر رضي الله عنه من نجران: إنَّهم لم يجدوا مكانًا أنظف ولا أجود من بيعة؛ فكتب إليه، انضحوها بماء وسدر، وصلوا فيها) انتهى.

قلت: يعني: لأنَّه يغلب عليها النجاسات، وهم لا يفرقون (١) الطهارة من النجاسة، فأفاد أنَّ الصلاة في البيع والكنائس إنَّما تكون صحيحة إذا كان المكان طاهرًا، والصلاة فيها حينئذ غير مكروهة، يدل عليه: أنَّ السنة وردت باتخاذ البيع والكنائس مساجد، وقد يقال: إنَّ الصلاة في البيع والكنائس مكروهة؛ لأنَّها بقعة غضب وسخط، فإنَّها بقعة يُعصَى الله تعالى فيها، ويكفر به، وليس كذلك المقبرة؛ مع أنَّ الجمهور على أنَّ الصلاة في المقبرة مكروهة، وذهب أحمد وغيره: إلى أنها لا تصح، كما قدمناه، ولأنَّ في صلاته في البيع ونحوها يلزم منه استهزاء الكفار بعبادة الإسلام، وقد نُهينا عن مجادلتهم؛ لأنَّه يلزم منه المجادلة في الديانات، وقال تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الكِتَابِ...}؛ الآية [العنكبوت: ٤٦]، فليكن الحق أنَّ الصلاة في البيع والكنائس مكروهة مطلقًا، سواء كان فيها تماثيل وصور أم لا؛ فافهم.

(وكان) عبد الله (ابن عبَّاس) حبر هذه الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنهما (يصلي) أي: الفرض وغيره (في البِيْعة)؛ بكسر الموحدة، وسكون التحتية: معبد النصارى (إلا بيعة فيها تماثيل) جمع (تِمثال)؛ بكسر الفوقية.

وهذا التعليق وصله البغوي في «الجعديات»، وزاد فيه: (فإن كان فيها تماثيل؛ خرج فصلَّى في المطر)، وروى ابن أبي شيبة في «مصنفه» بسند فيه خصيف-وفيه كلام- عن مقسم عن ابن عبَّاس أنه: كره الصلاة في الكنيسة؛ إذا كان فيها تصاوير، ولم يَرَ عطاء والشعبي وابن سيرين بالصلاة في الكنائس والبيع بأسًا، وهو قول مالك، وروي عنه: أنه كره الصلاة فيها؛ لما يصيب أهلها فيها من الخنازير والخمر، إلا أن يضطر إلى ذلك من شدة طين أو مطر، كذا في «عمدة القاري».

قلت: ومطابقته للترجمة ظاهرة، وقد يقال: الصلاة في الكنائس والبيع مكروهة؛ لأنَّها مأوى الشياطين، وبقعة غضب الله عليها؛ لأنَّها محل يكفر بالله فيه، وهو مذهب الحسن البصري.

ويدل للكراهة: أنَّ الكنائس والبيع مأوًى لكلٍّ من الخنازير، والكلاب، والخمر، ونحوها من النجاساتالتي يجتنبها المصلي إذا أراد الصلاة، وقد نصَّ أئمتنا الأعلام على أنَّ الصلاة تكره في قرب النجاسات؛ كالمزبلة وحائط نجس.

[حديث: أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح بنوا على قبره مسجدًا]

٤٣٤ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا محمد) : غير منسوب، وفي رواية ابن عساكر: (محمد بن سلَام)؛ بتخفيف اللام: هو البيكندي، وعزاها صاحب «عمدة القاري» لابن السكن؛ فإنَّه صرَّح به في روايته (قال أخبرنا)؛ بالجمع، وللأصيلي بالإفراد (عَبْدة)؛ بفتح العين المهملة، وسكون الموحدة آخره هاء، هو لقبه، واسمه عبد الرحمن بن سليمان، (عن هِشام بن عُروة)؛ بكسر الهاء في الأول، وضم العين المهملة في الثاني، (عن أبيه) : هو عروة بن الزبير بن العوام، (عن عائشة) : هي الصديقة بنت الصديق الأكبر رضي الله عنهما: (أن أم سَلَمة)؛ بفتح الهمزة في «أن»، وفتح المهملات في «سلمة»؛ أم المؤمنين، واسمها: هند -على الأصح- بنت أبي أمية المخزومية، هاجر بها زوجها إلى الحبشة، فلما رجعا إلى المدينة؛ مات زوجها، فتزوجها النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم.

(ذكرتْ) بتاء التأنيث (لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كَنيسة)؛ بفتح الكاف: معبد اليهود، ويقال لها: صِلاة؛ بكسر الصاد المهملة، ويقال: إنَّها معبد النصارى (رأتها)؛ أي: أم سلمة، (بأرض الحبشة) حين كانت مع زوجها الأول أبو سلمة هناك (يقال لها)؛ أي: لتلك الكنيسة، و «يُقال»؛ بضمِّ أوله مبني للمجهول: (مارِيةُ)؛ بتخفيف الراء والتحتية: النقرة، وبتشديدها: القطاة الملساء، قاله إمام الشارحين، وهي بالرفع نائب فاعل «يقال».

(فذكرتْ) أي: أم سلمة (له) أي: للنبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (ما رأت فيها) أي: في الكنيسة (من الصور)؛ أي: التماثيل المصورة، (فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم) أي: لها: (أولئكِ) بكسر الكاف خطابًا للمؤنث، ويجوز فتحها (قوم)؛ أي: من النصارى، (إذا مات فيهم العبد الصالح)؛ أي: من نبي أو غيره، (أو الرجل الصالح) : كذلك، وكلمة «أو» للشك من الراوي، والظاهر: أنَّه من هشام؛ (بنوا على قبره مسجدًا) هذا جواب كلمة «إذا»، (وصوروا فيه) أي: في المسجد (تلكِ الصور)؛ باللام، وفي رواية: «تيكِ»؛ بفوقية ثم تحتية، بدل اللام، والكاف فيهما مكسورة، ويجوز فتحها؛ أي: لأجل


(١) في الأصل: (لا يوقرون)، ولعل المثبت هو الصواب.

<<  <   >  >>