للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

هي مخففة مركبة من همزة الاستفهام و (لا) النافية، وليست حرف تنبيه، ولا حرف تحضيض، كذا قاله إمام الشَّارحين، قلت: فهي للعرض، (أجعل لك شيئًا) أي: منبرًا (تقعد عليه) أي: حين الخطبة (فإن لي غلامًا نَجَّارًا)؛ بفتح النون، وتشديد الجيم: صانع النِّجارة، وفي «عمدة القاري» : أن في رواية الكشميهني: (فإن لي غلامٌ نجارٌ) انتهى؛ يعني: برفع (غلام) على أن اسم (أن) ضمير الشأن، وزعم العجلوني أن في بعض نسخ القسطلاني: (فإني لي غلام)، وهي ظاهرة، قلت: جميع نسخ القسطلاني: (فإن لي) بدون تحتية، فمن أين أتى بها شيخ عجلون؟! فافهم، والمراد به: المملوك (قال) أي: النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لها: (إن شئتِ)؛ بكسر التاء الفوقية؛ خطاب المؤنث؛ يعني: إن شئت؛ فافعلي لي ذلك، وقال إمامنا الشَّارح: الجزاء محذوف؛ تقديره: إن شئت؛ عملت، ويروى: «إن شئت فعلت»، فلا حذف؛ فافهم، (فعملت) أي: المرأة المذكورة (المنبر)؛ أي: النبوي، وإضافة العمل إلى المرأة مجاز؛ كإضافة الجعل إليها؛ لأنَّ العامل إنَّما هو الغلام، وهي الآمرة بذلك، فالإضافة باعتبار أنَّها آمرة العامل حقيقة، فهو كقولهم: كسا الخليفة الكعبة.

فإن قلت بين هذين الحديثين تخالف؛ لأنَّه عليه السَّلام في حديث سهل سأل المرأة، وفي حديث جابر: أنَّ المرأة سألته عليه السَّلام.

قلت: لا تخالف؛ لأنَّه عليه السَّلام أرسل إلى المرأة وأمرها بأن تأمر غلامها يعمل له أعوادًا يجلس عليهن، فظنت أنَّ المراد به لأجل القعود فقط، فسألته عليه السَّلام أنَّ الغلام يجعل له أعوادًا لأجل المنبر يخطب (١) عليه، فالسؤال منها كان بيانًا لسؤاله عليه السَّلام، ويحتمل تعدد القصة؛ لأنَّ الغلام اختُلف باسمه، فيحتمل أن كل واحد منهم عمل منبرًا، ويحتمل أنَّهم اشتركوا في عمله، وسأل مولاته أن تسأله عليه السَّلام عن صفته؛ فافهم.

وأجاب ابن بطال: (بأن تكون المرأة ابتدأت بالسؤال، فلما أبطأ الغلام في عمله؛ أرسل إليها عليه السَّلام يستنجزها إتمامه؛ لعلمه بطيب نفسها بما بذلته من صنعة غلامها، ويمكن أن يكون إرساله عليه السَّلام إلى المرأة؛ ليُعرِّفها صفة ما يصنع الغلام في الأعواد) انتهى.

وزعم ابن حجر أنَّ المصنف أخرجه في (علامات النبوة) من هذا الوجه بلفظ: (ألا أجعل لك منبرًا)، فلعل التعريف وقع بصفة مخصوصة للمنبر، ويحتمل أنَّه لما فوَّض إليها بقوله لها: (إن شئت) كان ذلك سبب البطء، لا أنَّ الغلام كان شرع وأبطأ، ولا أنَّه جهل الصفة، وهذا أوجه الأوجه في نظري، انتهى.

قلت: وهذا كلام فاسد الاعتبار، فإن التعريف إنَّما وقع لأجل بيان الشيء الذي يقعد عليه وهو المنبر؛ لأنَّ قولها: (أجعل لك شيئًا تقعد عليه؟) يوهم أن يكون ذلك الشيء كرسي أو تخت، وهذه الرواية عرَّفت أنَّ المراد به: المنبر.

وقوله: (وقع بصفة مخصوصة...) إلخ: ممنوع؛ لأنَّ المنبر ليس له أوصاف متعددة حتى يبين الصفة المخصوصة؛ بل هو معلوم بصفة واحدة؛ فافهم.

وقوله: (ويحتمل أنه لمَّا فوَّض...) إلخ: ممنوع أيضًا، فإنَّ قوله: (إن شئت) ذكره لأجل تطييب خاطرها تواضعًا منه ورحمة بها، مع علمه (٢) بها أنها تريد خدمة النبي الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، على أنها قالت له: (ألا أجعل؟) فكانت هي السائلة لذلك، وإذا كان الأمر هكذا؛ فلا يحصل منها ولا من غلامها بطء، غاية الأمر أن غلامها قد شرع في عمل المنبر، فاشتبه عليه أنَّ المراد بذلك الشيء هل هو شيء يقعد عليه كالتخت والسرير أو المنبر؟ فأبطأ حتى استفهم عنه؛ لأنَّه كان جاهلًا تلك الصفة؛ لأنَّها لم تكن معهودة عنده، بدلالة قرينة الحال والمقال من الحديثين المذكورين؛ فافهم.

فإن قلت: حديثي الباب لا يدلان على الترجمة بتمامها، بل على الشق الأول منها، وهو الاستعانة بالنَّجار في أعواد المنبر، ولا يدلان على الشق الثاني منها، وهو الاستعانة بالصُّنَّاع في المسجد.

قلت: أجاب الكرماني: (بأنَّه إمَّا اكتفى بالنَّجار والمنبر؛ لأنَّ الباقي يعلم منه، وإمَّا أنَّه أراد أن يُلحِق إليه ما يتعلق بذلك ولم يتفق له، أو لم يثبت عنده بشرطه حديثٌ يدل عليه)، قال إمام الشَّارحين: (الجواب الأول أوجه من الثاني) انتهى.

قلت: ويحتمل أنَّه أراد أنَّ عمل المنبر يحتاج إلى الصُّنَّاع؛ لأنَّه لا بد فيه من عمل الخشب، والرفوف، والمسامير، والنجار، وكل ذلك يعمله الصُّنَّاع المتفاوتون في الصناعة؛ فافهم.

وزعم ابن حجر أنه أشار به إلى حديث طلق بن علي قال: بنيت المسجد مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فكان يقول: «قربوا اليمامي من الطين، فإنَّه أحسنكم له مسًّا، وأشدكم له سكبًا»، رواه أحمد، وفي لفظ له: فأخذت المسحاة، فخلطت الطين، فكأنه أعجبه فقال: «دعوا الحنفي والطين، فإنَّه أضبطكم للطين»، ورواه ابن حبان في «صحيحه» بلفظ: فقلت: يا رسول الله أنا أنقل كما ينقلون، فقال: «لا، ولكن اخلط لهم الطين فأنت أعلم به» انتهى.

قلت: وهذا بعيد جدًّا، فإن المؤلف لم يتفق له ذكر ترجمة ويشير بها إلى حديث لم يذكره أصلًا وليس على شرطه، وهو كلام غير موجه وبعيد عن الأذهان؛ لأنَّه معيب في الصناعة، والبخاري دقيق النَّظر، وإنَّما هذا من فتور ذهن ابن حجر، فإنَّه من دأبه ذكر كلام لا طائل تحته، ولا معنى عنده، بل هو كلام من لم يشم شيئًا من رائحة العلم؛ فافهم.

قال إمام الشَّارحين: قيل: هذا الحديث لا يدل على الاستعانة؛ لأنَّ هذه المرأة قالت ذلك من تلقاء نفسها، وأجيب: بأنَّها استعانت بالغلام في نجارته المنبر، ومن فوائد هذا الحديث: قبول البذل إذا كان بغير سؤال، واستنجاز الوعد ممن يعلم منه الإجابة، والتقرب إلى أهل الفضل بعمل الخير، انتهى، والله أعلم.

(٦٥) [باب من بنى مسجدًا]

هذا (باب) بيان فضل (من بنى) أي: الذي عمَّر (مسجدًا) لله تعالى؛ أي: تقربًا إليه، وطلبًا لثوابه، وهربًا من عقابه.

[حديث: من بنى مسجدًا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة]

٤٥٠ - وبالسند إلى المؤلف قال: (حدثنا يحيى بن سُلَيْمان)؛ بضمِّ السين المهملة، وفتح اللام، وسكون التحتية: هو ابن يحيى الجعفي المكي، المتوفى بمصر يوسف عليه السَّلام، سنة ثمان وثلاثين ومائتين (قال: حدثني) بالإفراد، ولابن عساكر: (حدثنا) بالجمع (ابن وهب)؛ مكبَّرًا: هو عبد الله المصري القرشي الثقة (قال: أخبرني) بالإفراد (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة: هو ابن الحارث


(١) في الأصل: (تخطب).
(٢) في الأصل: (عمله)، وهو تحريف.

<<  <   >  >>