وقال العلَّامة الزمخشري: (فيه لغتان؛ التركيب ومنع الصرف، والثانية: الإضافة، فإذا أضيف؛ جاز في المضاف إليه الصرف وتركه)، وتمامه في «عمدة القاري» : (ما الحدث)؛ مبتدأ وخبر، والجملة مقول القول، وفي رواية: (فما الحدث) (يا أبا هريرة؟) وفي بعض النسخ بحذف الهمزة؛ للتخفيف (قال) أي: أبو هريرة: (فُسَاء)؛ بضم الفاء، وفتح السين المهملة، والمد، مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو فساء؛ أي: الحدث فساء، (أو ضُراط)؛ بضم الضَّاد المعجمة، وهما مشتركان في كونهما ريحًا خارجًا من الدبر، يمتاز الأول بكونه بدون صوت، والثاني مع الصوت، وإنَّما اقتصر على هذين مع أن المراد كل خارج من السبيلين، أو ما يكون مظنَّة له كزوال العقل؛ تنبيهًا بالأخف على الأغلظ، أو لأنَّهما قد يقعان في أثناء الصلاة أكثر من غيرهما، أو لعلمه أن السائل كان يعلم ما عدا ذلك.
قال في «عمدة القاري» : وفيه بعد، والأقرب أن يقال: إنه أجاب السائل بما يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر، كما ورد نحو ذلك في حديث آخر: «لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا»، وفي الحديث دلالة على [أنَّ] الصلوات كلها مفتقرة إلى الطهارة، ويدخل فيها صلاة الجنازة، وصلاة العيدين، وسجدة التلاوة والشكر وغيرهما، وحكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري: أنهما أجازا صلاة الجنازة بغير وضوء وهو باطل؛ لعموم هذا الحديث والإجماع، ومن الغريب أنَّ قولهما قال به بعض الشافعية؛ فلو صلَّى محدثًا متعمدًا بلا عذر؛ أثم ولا يكفر عند الجمهور، وروي عن الإمام الأعظم أنَّه يكفر لتلاعبه وقد سبق؛ فافهم، لكن قد يفرق بين صلاة الجنازة والصلاة المطلقة؛ بأن الأولى: دعاء حقيقة، والثانية: ذات الأركان والأفعال، وهو دليل على [أنَّ] تعمد صلاة الجنازة بغير طهور غير مكفِّر؛ لأنَّها دعاء، والصلاة المطلقة المختار أنه يكفر، كما حررناه فيما سبق.
قال بعض الشراح: هذا الحديث رد على من يقول: إذا سبقه الحدث؛ يتوضأ، ويبني على صلاته.
قلت: هذا قول الإمام الأعظم رئيس المجتهدين التابعي الجليل، وهو رواية عن مالك، وبه قال الشافعي في القديم، وهو ليس يرد عليهم، كما زعم؛ لأنَّ من سبقه الحدث في صلاته إذا ذهب وتوضأ وبنى على صلاته؛ يصدق عليه أنه توضأ وصلى بالوضوء، على أنه قد ورد في الحديث عنه عليه السلام أنه قال: «من أحدث في صلاته؛ فلينصرف، فليتوضأ، ثم يتم صلاته»، وسيأتي في محلِّه بقية الكلام.
وقال الكرماني: (وفيه: أنَّ الطواف لا يجزئ بغير طهور؛ لأنَّ النبي عليه السلام سمَّاه صلاة؛ فقال: «الطواف صلاة إلا أنه أبيح فيه الكلام»).
قلت: الأصل فيه: قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا} [الحج: ٢٩]، وهو مطلق، واشتراط الطهارة في الطواف بخبر الواحد زيادة على النص، وهي نسخ؛ فلا يثبت به، غير أنَّا نقول بوجوبها؛ لخبر الواحد، ومعنى الحديث: الطواف كالصلاة، والتشبيه في الثواب دون الحكم؛ لأنَّ التشبيه لا عموم له ألا ترى أن الإنحراف فيه، والمشي، والكلام وغيرهما فيه لا يفسده؛ فافهم، والله أعلم.
(٣) [باب فضل الوضوء والغر المحجلون من آثار الوضوء]
هذا (بابُ فضلِ الوُضوء)؛ بضم الواو بجر (فضل) بالإضافة إلى (باب)، وبرفعه بلا إضافة خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا، وعليه؛ فـ (باب) بالتنوين (والغرَّ المحجلين)؛ بالجر للمستملي عطفًا على الوضوء؛ أي: وفضل الغر المحجلين، كما صرح به الأصيلي، وفي أكثر الروايات كما في «عمدة القاري» : (والغرُّ المحجلون)؛ بالرفع إمَّا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وإما بالعطف على (فضل) المرفوع في الرواية، وإما على الحكاية، وأيَّده في «عمدة القاري» بأنه وقع في رواية مسلم: (أنتم الغرُّ المحجَّلون)، وعليها فـ (الغر) : مجرور بكسرة مقدَّرة عطفًا على المجرور السابق، منع من ظهورها اشتغال المحل بحركة الحكاية، و (المحجَّلون) : نعت لـ (الغر) مجرور بياء مقدرة في الآخر، منع من ظهورها اشتغال المحل بحرف الحكاية، وإمَّا على أن يكون (الغر) خبرًا لمبتدأ محذوف؛ نحو: أنتم، يقدر بعد الواو، أو أن يكون (الغر) مبتدأ، و (المحجلون) صفته، وخبره محذوف؛ أي: مفضلون على غيرهم، أو الخبر قوله: (من آثار الوُضوء)؛ أي: منشؤهم آثار الوضوء، و (من)؛ للسببية، أو لابتداء الغاية، و (الوُضوء) : بضم الواو وفتحها، والواو في (والغر) عاطفة؛ لأنَّ التقدير: باب فضل الوضوء وباب هذه الجملة، وجعلها ابن حجر استئنافية، وتبعه الشيخ إسماعيل، وردَّه في «عمدة القاري» بأن فيه ركاكة، وتبعه البرماوي والدماميني؛ حيث قال: (لا يصح؛ لعدم صحة الحمل؛ لعدم الفائدة).
وقال الزركشي: (و «الغرُّ المحجلون» بالرفع، وإنما قطعه عمَّا قبله؛ لأنَّه ليس من جملة الترجمة)، وردَّه في «عمدة القاري» بأنَّه ليس كما قال، بل هو من جملة الترجمة؛ لأنَّه هو الذي يدل عليها صريحًا؛ لمطابقة ما في حديث الباب إياها، كما ستقف عليه، انتهى، وتبعه على ذلك البرماوي، وانتصر للزركشي الدمامينيُّ تعصُّبًا، وردَّه الشيخ إسماعيل بما يطول؛ فليحفظ.
[حديث: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء]
١٣٦ - وبه قال: (حدثنا يحيى بن بُكَيْر)؛ بضم الموحدة، وفتح الكاف، وإسكان التحتية، المصري (قال: حدثنا الليث) : هو ابن سعد المصري، (عن خالد) : هو ابن يزيد، من الزيادة، الإسكندراني البربري الأصل، أبو عبد الرحيم، المصري التابعي، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومئة، (عن سعيد) بكسر العين (ابن أبي هلال) الليثي مولاهم، أبو العلاء المصري، ولد بمصر، ونشأ بالمدينة، ثم رجع إلى مصر في خلافة هشام، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومئة، (عن نُعَيْم)؛ بضم النُّون، وفتح العين، وسكون التحتية، ابن عبد الله أو محمد المدني العدوي (المُجمِر)؛ بضم الميم الأولى وكسر الثانية: اسم فاعل من الإجمار على الأشهر، وقيل: بتشديد الميم الثانية من التجمير؛ وهو التبخير، سمي به نعيم وأبوه أيضًا؛ لأنَّهما كانا يبخران مسجد النبي الأعظم عليه السلام، فهو صفة لهما حقيقة، فلا تصح دعوى المجاز في نعيم كما زعمه النووي؛ فليحفظ.
(قال: رَقِيت)؛ بكسر القاف؛ أي: صعدت، وفي «المطالع» : (أنه بفتح القاف بالهمز وبدونه) انتهى، فهي ثلاث لغات، واللغة الصحيحة المشهورة: كسر القاف، كذا في «عمدة القاري» (مع أبي هريرة) رضي الله عنه (على ظهر المسجد)؛ أي: مسجد النبي الأعظم عليه السلام، فـ (أل) للعهد، (فتوضأ) بالفاء، وفي رواية: (ثم توضأ)، وفي أخرى: (توضأ) بدون حرف عطف، وفي أخرى: (وتوضأ) بواو العطف، وفي رواية: (يومًا) : بدل (توضأ)، واتفق الشراح على