للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

ذلك على أنَّ بول ما سواه في حكم النجاسة سواء، والأوجه أن يقال: كان ذلك في ابتداء الإسلام على أصل الإباحة، ثمَّ ورد الأمر بتكريم المسجد وتطهيره وجعل الأبواب على المساجد، وفيه: دلالة ظاهرة على أنَّ الأرض إذا أصابتها نجاسة فجفَّت بالشمس أو بالهواء، فذهب أثرها؛ تطهر في حقِّ الصلاة عليها دون التيمم منها، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، خلافًا للإمام زفر، والشافعي، وأحمد، ويدلُّ لذلك أنَّ أبا داود وضع لهذا الحديث: (باب طهور الأرض إذا يبست)، وأيضًا قوله: (فلم يكونوا يرشون شيئًا)، وعدم الرشِّ دليل على جفاف الأرض وطهارتها من غير نكير؛ فليحفظ.

واعلم أنَّ في الحديث دليل على نجاسة عظمة الكلب العقور المشحونة بالمكر، والخداع، والفجور، فإنَّها عظمة أنفت الكلاب أكلها وألقتها في المزابل؛ لأنَّه لا خير فيها قط لأحد، بل هي بمكان من الشرور، كما بينت ذلك في كتابي «إنجاء الغريق المخزون فيما يقوله صاحب الهمِّ المحزون»؛ فافهم.

[حديث: إذا أرسلت كلبك المعلم فقتل فكل]

١٧٥ - وبه قال: (حدثنا حفص بن عمر) : بن الحارث بن سَخْبَرة؛ بفتح المهملة، وسكون المعجمة، وفتح الموحدة، النمري الأزدي، البصري أبو عمر الحوضي، المتوفى سنة خمس وعشرين ومئتين (قال: حدثنا شعبة) : هو ابن الحجاج (عن ابن أبي السَّفَر)؛ بفتح المهملة والفاء: عبد الله بن سعيد بن الحَشْرج؛ بفتح المهملة، وسكون المعجمة، آخره جيم، الهمداني الكوفي، المكنَّى بأبي طَريف؛ بفتح المهملة، آخره فاء، وما في «القسطلاني» من أنَّه صحابي الشهير بأبي محمد أو أحمد؛ فخطأ ظاهر لا يخفى؛ لأنَّه ليس بتابعيٍّ فضلًا عن كونه صحابيًّا؛ فافهم، (عن الشَّعْبي)؛ بفتح المعجمة، وسكون المهملة، واسمه عامر، (عن عَدي) بفتح العين المهملة (بن حاتِم)؛ بكسر المثناة الفوقية، المشهور، ابن عبد الله الطَّائي أبو طَريف؛ بفتح المهملة، الجواد بن الجواد، قدم على النبيِّ الأعظم عليه السلام في سنة سبع، نزل الكوفة، ومات بها زمن المختار، وهو ابن عشرين ومئة سنة، أو مات بقرقيسا عن مئة وثمانين سنة، وكان عليه السلام يكرمه، وشهد فتوح العراق زمن عمر بن الخطاب، وكان يفتُّ الخبز للنمل، ويقول: إنهنَّ جارات لنا ولهنَّ حقٌّ: أنَّه (قال: سألت النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن حكم صيد الكلاب، كما صرَّح به المؤلف في كتاب (الصيد)، فذكر المسؤول عنه، ولم يذكر المسؤول، واكتفى بالجواب؛ لأنَّه يحتمل أن يكون علم أصل الإباحة، ولكنه حصل عنده شكٌّ في بعض أمور الصيد فاكتفى بالجواب، ويحتمل أن يكون قام عنده مانع من الإباحة التي علم أصلها، وبهذا اندفع ما قاله ابن حجر من أنه حذف لفظ السؤال اكتفاء بدلالة الجواب عليه؛ فافهم.

(قال) أي: عدي (فقال)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام: (إذا أرسلت كلبك المعلَّم)؛ بفتح اللام المشددة، وهو مفوَّض إلى رأى المعلِّم عند الإمام الأعظم؛ لأنَّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، وعند الإمام أبي يوسف والإمام محمد: ترك الأكل ثلاث مرات، وعند مالك: بالانزجار، وعند الشافعي: بالعرف، وأما اشتراط التعلم؛ فلقوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ} [المائدة: ٤]، قال ابن المُنيِّر: والعجب من الشافعي أنَّه قال: إنَّ السكين إذا سقيت بماء نجس؛ نجَّست الذبيحة، فأين ذلك مِنْ نابِ الكلب النَّجس العين عنده وقد أجمعنا على أن ذكاته شرعية لا تنجس المذكَّى؟! كذا في «المصابيح»، ومذهب الإمام الأعظم: أنه يتنجس المذبح فقط؛ لنجاستها فيغسل المذبح فقط، كمحل ما أصابه ناب الكلب المذكور ثلاثًا فيطهر، ويرد على الشافعي أيضًا تنجيس الملاقي؛ فافهم.

(فقتل)؛ أي: الكلبُ الصيدَ، وطوى ذكر المفعول؛ للعلم به، وقيَّد بالقتل؛ ليخرج ما لو أدرك الصيد حيًّا حياة فوق حياة المذبوح بأن يعيش يومًا أو أكثره، فلا بدَّ من ذكاته، فلو تركها عمدًا متمكنًا منها؛ حرم؛ لقدرته على الذكاة الاختيارية، أما لو كان غير متمكن إما لفقد آلة، أو لضيق الوقت؛ فظاهر الرواية: أنَّه يحرم أيضًا؛ لأنَّ العجز عن التذكية في مثل هذا لا يحل الحرام، وفي رواية عن الإمام الأعظم: أنَّه يحل، وهو قول الشافعي، ونقل البرجندي عن ابن زياد: أنَّه يؤكل استحسانًا، وبه أخذ الإمام قاضيخان، وعزاه لـ «الكافي»، فإن لم يبق من حياته إلا مثل حياة المذبوح وهو مما لا يتوهم بقاؤه فلم يدركه حيًّا؛ فإنَّه يحل بالإجماع؛ لأنَّه ميت حكمًا حتى لو وقع في الماء؛ لم يحرم، كذا في «شروح الملتقى»، (فكُلْ) الأمر فيه للإباحة، وهذه الجملة جواب الشرط، ففيه دليل على إباحة صيد جميع الكلاب المعلَّمة من الأسود وغيرها، وقال أحمد: لا يحل صيد الكلب الأسود؛ لأنَّه شيطان، وإطلاق الحديث حجة عليه، وفيه أيضًا إباحة الاصطياد؛ للانتفاع به للأكل، ودفع الشر والضرر، واختلف فيمن جعل الصيد للحرفة، أو للهو ونزهة، ففي «الفتاوى البزازية» : (الصيد مباح إلا للتَّلهِّي أو حرفة)، قال في «الأشباه» : (وعلى هذا فاتخاذه حرفة كصيادين السمك حرام) انتهى.

لكن في «المنح شرح التنوير» : (التحقيق عندي اتخاذه حرفة؛ لأنَّه نوع من الاكتساب، وكل أنواع الكسب في الإباحة سواء على المذهب الصحيح)، وأقرَّه في «الدر المختار»، وفي «التاترخانية»، (قال الإمام أبو يوسف: إذا طلب الصيد لهوًا ولعبًا؛ فلا خير فيه، وأكرهه، وإن طلب منه ما يحتاج إليه من بيع، أو إدام، أو حاجة أخرى؛ فلا بأس به) انتهى.

وفي «مجمع الفتاوى» : (ويكره للتلهِّي وأن يتخذه حرفة) انتهى، وأقره العلَّامة الشرنبلالي في الحاشية، قلت: وهذا هو المعتمد كما في «منهل الطلاب».

(وإذا أكل) أي: الكلب من الصيد؛ (فلا تأكل)؛ أي: الصيد الذي أكل منه الكلب، وعلل النهي بقوله: (فإنما أمسكه على نفسه) والفاء للتعليل، فيشترط عدم أكله؛ لأنَّه بأكله تبيَّن جهله، فلا يؤكل مطلقًا سواء كان نادرًا أو معتادًا، وكذا لا يؤكل ما صاد بعده حتى يتعلَّم ثانيًا بترك الأكل ثلاثًا، ولو أخذ الصياد الصيد من الكلب وقطع منه بضعة وألقاها إليه فأكلها، أو خطف الكلب منه وأكله؛ أكل ما بقي، وكذا لو شرب الكلب من دمه؛ يؤكل؛ لأنَّه غاية علمه، كذا في «التنوير» و «شرحه».

(قلت) هذا من كلام عدي رضي الله عنه: يا رسول الله؛ (أرسل كلبي)؛ أي: المعلَّم، (فأجد معه كلبًا آخر)؛ بالإضافة؛ أي: كلب شخص آخر، ويحتمل أنه منون، وجعل ما بعده صفة له، والمراد بالكلب الآخر: الذي لا يحل صيده؛ وذلك ككلب غير معلم، أو لم يرسل، أو لم يسم عليه، أو كلبُ مجوسيٍّ (قال) أي: النبي الأعظم عليه السلام: (فلا تأكل)؛ أي: من ذلك الصيد، وعلل النهي بقوله: (فإنما سميت) أي: ذكرت اسم الله تعالى (على كلبك) عند إرساله (ولم تسمِّ على كلب آخر) والظاهر أن الجملة حال، وإنما حذف حرف العطف من السؤال والجواب؛ لأنَّه ورد على طريق المقاولة كما في آية مقاولة موسى وفرعون.

وفي الحديث: دلالة على أنَّ الإرسال شرط، حتى لو استرسل بنفسه؛ بأن انفلت من صاحبه،

<<  <   >  >>