للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

في ذلك، فهذا الجواب ضعيف، وليس بحسن، فضلًا عن أن يكون أحسن، فإنَّ المقصود من التطيب ليس استعمال الطيب فقط، بل استعماله مع الانتفاع برائحته ونحو ذلك، واستعماله قبل الغسل لا معنًى [له]؛ لأنَّ الماء لا يبقى له أثرٌ (١) في البدن، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.

(٧) [باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة]

هذا (باب) حكم (المضمضة والاستنشاق في) الغسل من (الجنابة) هل هما واجبان أو سنتان، ومثل الجنابة الحيض والنفاس، كما لا يخفى، والإمام المؤلف قصد بهذه الترجمة إثبات وجوب المضمضة والاستنشاق، فاستنبط من الحديث الآتي في هذا الباب وجوبهما، وكذلك الحديث السابق في الباب قبله، فإنَّه يدل على وجوبهما أيضًا؛ حيث إنَّه لم يذكر فيه أنَّه توضأ وضوءه للصلاة، فدل ذلك على وجوبهما، كما لا يخفى، ولهذا عقب هذا الباب بالباب الذي قبله، وهذا ظاهر، كما لا يخفى، وبهذا ظهر فساد ما زعمه ابن حجر تبعًا لما زعمه ابن بطال: من أنَّ المؤلف استنبط عدم وجوبهما من هذا الحديث؛ لأنَّ في رواية الباب الذي بعده في هذا الحديث: (ثم توضأ وضوءه للصلاة)، فدل على أنَّهما للوضوء، وقام الإجماع على أنَّ الوضوء في غسل الجنابة غير واجب وهما من توابع الوضوء، فإذا سقط الوضوء؛ سقط توابعه، ويحمل ما روي من صفة غسله عليه السلام على الكمال والفضل.

ورد هذا صاحب «عمدة القاري» فقال: قلت: (هذا الاستدلال غير صحيح؛ لأنَّ هذا الحديث ليس له تعلق بالحديث الذي يأتي بعده، وفيه تصريح بالمضمضة والاستنشاق، ولا شك أنَّه عليه السلام لم يتركهما؛ فدل ذلك على المواظبة، وهي تدل على الوجوب، والدليل على المواظبة عدم النقل عنه عليه السلام تركه إياهما، وسقوط الوضوء القصدي لا يستلزم سقوط الوضوء الضمني، وعلى كل حال لم ينقل تركهما، وأيضًا النص يدل على وجوبهما، كما ذكرنا فيما مضى) انتهى.

قلت: والنص هو قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦]، فإنَّ معناه: طهروا أبدانكم، فيدخل فيه كل ما أمكن تطهيره من البدن من غير حرج، ولا ريب أنَّ المضمضة والاستنشاق داخلان تحت هذا الأمر، وهو للوجوب، فدل ذلك على وجوبهما بالنص، على أنَّ قول ابن بطال: (استنبط عدم وجوبها...) إلخ؛ فاسد، فإنَّ الظاهر أنَّ المؤلف استنبط وجوبهما بدليل أنَّه عقب هذا الباب بالباب الذي قبله، والأحاديث التي فيهما لم يذكر فيها أنَّه توضأ وضوءه للصلاة، فدل ذلك على أنَّه اغتسل الغسل المفروض بدون سننه، وهو دليل على وجوبهما قطعًا، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.

وزعم ابن حجر في «الانتقاض» معترضًا على صاحب «عمدة القاري»، فقال: (حكاية هذا الكلام تغني عن تكلف الرد عليه، وقد صرح الحذاق بأنَّ عدم النقل لا يدل على عدم الوقوع، ولا سيما إن وجدت قرينة تدل على عدم الوقوع، وهذا المعترض أكثر من الطعن على من تقدمه) انتهى.

قلت: وهذا الزعم باطل، وأشار بقوله: (حكاية هذا...) إلخ: إلى أنَّ الدليل الذي ذكره صاحب «عمدة القاري» قوي؛ كالجبل الراسخ، فلم يوجد ما يعارضه إلا قوله: (وقد صرح...) إلخ، وهو لا يعارضه أصلًا، فأي قرينة وجدت مع النقل بالوقوع والتصريح بعدم نقل الترك؟ على أنَّ الأحاديث الواردة في ذلك قرينة ظاهرة على أنَّه عليه السلام لم يتركهما أصلًا، هذا وقد روى البيهقي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثًا فريضة»، وما زعمه بعضهم من أنَّه ضعيف فاسد؛ لأنَّه روي بطرق متعددة، وبتعدد طرقه يرتقي إلى درجة الصحيح، كما لا يخفى، وقد انعقد الإجماع على أنَّ الفرض مرة واحدة، فهذا دليل ظاهر، وقرينة واضحة على أنَّه عليه السلام لم يتركهما أصلًا، فدل ذلك على الوجوب قطعًا، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم.

وقوله: (وهذا المعترض...) إلخ؛ فإنا لم نعهد سوء أدب من هذا الإمام الشارح مع من تقدمه من المجتهدين، فإنَّه سيد المؤدبين من الشراح، بل عهدنا سوء الأدب من ابن حجر في حقهم كثيرًا، فلا له أن يقول هذا الكلام، ومقصد إمامنا الشارح بيان الحق والرجوع إليه؛ إذ ما بعد الحق إلا الضلال؛ فافهم، وبما قررناه ظهر فساد ما زعمه ابن حجر من أنَّ الله تعالى لم يذكرهما في كتابه ولا أوجبهما رسوله، ولا اتفق الجميع على إيجابهما، والفرائض لا تثبت إلا بهذه الوجوه، وما كان في معناها) انتهى.

قلت: فإنَّ هذا كلام من لم يشمَّ شيئًا من العلم كيف ولم يذكرهما الله تعالى؟ وقد قال [الله] تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦]؛ ومعناه: طهروا أبدانكم، فيدخلان تحت الأمر، فكأنَّه تعالى قال ذلك صريحًا، والنبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم قد ثبت عنه وجوبهما قولًا وفعلًا، كما قدمناه، وهما من الفروض العملية، وهي لا تحتاج لإثباتها الإجماع كما زعمه، فإنَّ الإجماع يُحتاج إليه في الفروض العلمية ألا ترى أنَّ من أنكر فرضيتهما لا يكفر؛ لأنَّهما من الفروض العملية لا العلمية، كما لا يخفى على من له أدنى ذوق في العلم، وفي هذا القدر كفاية للمتعصبين؛ فافهم.

[حديث: صببت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلًا فأفرغ بيمينه]

٢٥٩ - وبه قال: (حدثنا عُمر)؛ بضمِّ العين المهملة (بن حفص بن غِياث)؛ بكسر الغين المعجمة، آخره مثلثة، المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومئتين (قال: حدثنا أبي) : هو حفص بن غياث بن طلق النخعي الكوفي، وُلِّي القضاء ببغداد، أوثق أصحاب الأعمش، ثقة، فقيه، عفيف، حافظ، مات سنة ست وتسعين ومئة (قال: حدثنا الأعمش) : هو سليمان بن مهران (قال: حدثني) بالإفراد (سالم)؛ بالسين المهملة: هو ابن أبي الجعد، التابعي، (عن كُريب)؛ بضمِّ الكاف؛ مصغرًا: مولى ابن عباس، (عن ابن عباس) : عبد الله رضي الله عنهما قال: (حدثتنا)؛ بتاء التأنيث بعد المثلثة (مَيمُونة)؛ بفتح الميم الأولى، وضم الثانية: بنت الحارث زوج النبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم، وخالة ابن عباس رضي الله عنها أنَّها (قالت: صببت للنبيِّ) الأعظم (صلَّى الله عليه وسلَّم غُسلًا)؛ بضمِّ الغين المعجمة؛ أي: ماء للاغتسال من الجنابة، (فأفرغ) : من الإفراغ؛ أي: صب النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بيمينه على يساره)؛ أي: صب الماء الذي طلبه أولًا في يمينه من الإناء، أو أخذه بها، فيكون هذا على وفق عادته عليه السلام؛ لأنَّ عادته عليه السلام غالبًا الإفراغ بشماله على يمينه؛ لما رواه مسلم من حديث أبي سَلَمَة عن عائشة قالت: (كان النبي عليه السلام إذا اغتسل بدأ بيمينه، فصب عليها من الماء فغسلها)، وقد يقال: إنَّما أفرغ بيمينه على يساره لما كان فيها من المني وغيره؛ ليكون متناولًا الماء بيديه الطاهرتين، وهذا معنًى صحيح؛ فليحفظ، (فغسلهما)؛ أي: اليمين واليسار معًا بعد أن غسل اليسار أولًا، ثم جعل الماء فيهما فغسلهما معًا هذا هو الظاهر؛ فافهم، (ثم غسل فرجه)؛ أي: مذاكيره القبل والدبر وما حولهما بعد أن أفرغ بيمينه على شماله، (ثم قال بيده)؛ أي: اليسار التي استنجى بها (الأرض)؛ أي: ضرب بيده الأرض، فإنَّ العرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام، كما ذكرناه عن قريب، وسيجيء في رواية في هذا الموضع: (فضرب بيديه الأرض)؛ بالتثنية، كذا في «عمدة القاري»، وفي رواية أبي ذر، وابن عساكر: (على الأرض)؛ أي: ضرب بيده عليها، أو يقال: مسح بيده على الأرض، فإنَّ


(١) في الأصل: (أثرًا)، وليس بصحيح.

<<  <   >  >>