للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

المراد بـ (قال) إمَّا ضرب أو مسح، قال ابن بطال: سمى الفعل في (ثم قال بيده الأرض) : قولًا، كما سمى القول فعلًا في حديث: «لا حسد إلا في اثنتين» حيث قال في الذي يتلو القرآن: «لو أوتيت مثل ما أوتي؛ لفعلت مثل ما فعل») انتهى؛ فتأمل، (فمسحها) أي: اليد (بالتراب) لما أنَّه أصابها شيء من المني، أو المذي، أو غيرهما وهذا لزج لا يخرجه إلا الدلك، فلهذا احتاج إلى مسحها بالتراب.

وقال ابن الملقن: (لعله لأذًى كان فيها، وإلا؛ لكان يكتفي بالماء وحده) انتهى.

قلت: نعم؛ قد كان فيها أذًى من مني أو غيره، كما قلنا.

(ثم غسلها)؛ أي: اليد بالماء؛ لأجل الغسل من الجنابة بدليل قوله: (ثم مضمض) وفي رواية: (ثم تمضمض)؛ بزيادة مثناة فوقية أوله، (واستنشق) فإنَّهما فرضان في الغسل بدليل أنَّه لم يذكر غسل اليدين، ولا مسح الرأس، وبه ظهر فساد ما زعمه العجلوني (من أنَّه غسلها لأجل الوضوء المسنون، فيكون فيه حذف غسل اليدين، ومسح الرأس) انتهى؛ لأنَّه إنَّما قال ذلك تعصبًا وترويجًا لما ذهب إليه إمامه من سنيتهما، وهو مردود، فإنَّ هذا الحديث وغيره يدل على وجوبهما؛ لأنَّ قوله: (ثم غسلها) ظاهر في أنَّه لأجل الغسل لا للوضوء.

وقوله: (ثم مضمض)؛ أي: ابتدأ بفروض الغسل، وهكذا فليس فيه وضوء؛ لأنَّه لو كان فيه وضوء؛ لما ترك غسل اليدين ومسح الرأس.

وقوله: (وفيه حذف...) إلخ؛ ممنوع، فأي دليل دله على الحذف وما هو إلا مجرد دعوى بلا دليل، وتعصب لا يشفي العليل؛ فافهم.

(ثم غسل) أي: النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (وجهه) الشريف؛ أي: ولحيته الشريفة، (وأفاض) أي: صب الماء (على رأسه)؛ أي: وغسل باقي جسده ثلاثًا يستوعب الجسد بكل واحدة منها، وعطف (وأفاض على رأسه) بـ (الواو) يصدق بتقديمه على غسل الوجه، وبتأخيره عنه؛ لأنَّ الواو لمطلق الجمع على التحقيق، وهو يدل على أنَّ هذا ليس بوضوء، كما زعمه، بل غسل؛ فليحفظ، (ثم تَنَحَّى)؛ بمثناة فوقية، بعدها نون، ثم حاء مهملة مشددة المفتوحات؛ أي: تحول وتباعد عن مكانه الذي اغتسل فيه إلى مكان آخر، (فغسل قدميه)؛ أي: رجليه؛ تنظيفًا لهما عن الماء المستعمل، وتتميمًا للغسل؛ ليكون البدء والختم بأعضاء الوضوء، (ثم أُتي)؛ بضمِّ الهمزة؛ أي: النبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم (بمِنديل)؛ بكسر الميم، واشتقاقه من الندل؛ وهو الوسخ؛ لأنَّه يندل به، ويقال: تندلت بالمنديل، قال الجوهري: (ويقال أيضًا: تمندلت)، وأنكرها الكسائي، ويقال: تمدلت، وهو لغة فيه، كذا في «عمدة القاري».

قلت: ففيه ثلاث لغات، وهو معروف لا يخفى.

(فلم ينفُض بها)؛ بضمِّ الفاء، وفي بعض النسخ: (فلم ينتفض بها)؛ بزيادة فوقية مفتوحة بعد النون، قال الجوهري: النفض: التنشف؛ أي: لم يتنشف، وإنَّما أنَّث الضمير؛ لأنَّ المنديل في معنى الخرقة، وعن عائشة رضي الله عنها: (أنَّه عليه السلام كانت له خرقة يتنشف بها)، كذا في «عمدة القاري»، قال: زاد في رواية: (كريمة) : (قال أبو عبد الله)؛ أي: المؤلف: (يعني)؛ أي: يقصد، ويريد أنَّه (لم يتمسح به)؛ أي: بالمنديل، وفي نسخة: (بها)؛ أي: بالخرقة، كما مر؛ أي: من بلل ماء الغسل، وأراد النبيُّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم بتركه المنديل إبقاء بركة الماء -لأنَّه أثر عبادة- والتواضع؛ لأنَّ فعله عادة المتكبرين المترفهين، مع أنَّه يحتمل أن يكون تركه لشيء رآه فيه، أو لاستعجاله إلى الصَّلاة، أو لأنَّه عنده خرقة مخصوصة بنفسه، كما روت عنه عائشة؛ لأنَّ ظاهر الحديث يدل على أنَّه عليه السلام كان يتنشف، ولولا ذلك؛ لم تأته بالمنديل، ففيه: دليل على أنَّه لا بأس بالتمسح بالمنديل للمتوضئ والمغتسل، إلا أنَّه ينبغي ألَّا يبالغ، ويستقصي فيبقي أثر الوضوء على أعضائه، كما صرح به في «معراج الدراية»، وصرح في «المنية» باستحباب التمسح بالمنديل بعد الغسل، والصحيح أنَّه لا يكره استعمال الخرقة؛ لتمسح العرق، ولإلقاء النخامة والمخاط، كما في «الكافي»، و «شرح الوقاية»، وقال النووي: (واختلف فيه في الوضوء والغسل، والأظهر أنَّ المستحب تركه، وقيل: مكروه) انتهى.

فما يفعله بعض الناس في زماننا من تعليق الخرقة أو المنديل بعد التمسح به في الأواسط مكروه؛ لأنَّ فيه إظهار الزينة والتكبر، وأنَّه قد صلى في المسجد الجامع مع الجماعة، وأنَّه من الورعين الصالحين، ويمر على أرباب الدكاكين، وهم قعود ولسان حاله يقول: إنَّ هؤلاء الجماعة مقصرون في العبادة ومقبلون على الدنيا، والحال يحتمل أنَّه من المنافقين المرائين الذين يستحقون حبلًا، وطبلًا، وشيحًا، وكبريتًا، ورجوعًا إلى القهقرى، والله أعلم، هذا وقد أخذ المنديل عثمان بن عفان، والحسن بن علي، وأنس، وبشير بن أبي مسعود، ورخص فيه الحسن، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق، والضحاك، وكان الإمام الأعظم، ومالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق لا يرون به بأسًا، وكرهه ابن أبي ليلى، والنخعي، وابن المسيب، ومُجَاهِد، وأبو العالية، وفي الحديث أيضًا دليل على وجوب المضمضة والاستنشاق في الغسل؛ لقولها في بيان غسله عليه السلام: (ثم تمضمض واستنشق)، وبهذا تحصل المطابقة للترجمة، وممن قال بوجوبهما: رأس المجتهدين الإمام الأعظم، وأصحابه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وإسحاق، وأحمد ابن حنبل، وبعض أصحاب الشافعي، وبعض أصحاب مالك.

وقال في «المنتهى الحنبلي» : (ويصح أن يسميا فرضين في أصح الروايتين، وهما واجبان في الوضوء والغسل، فلا يسقط واحد منهما سواء على المشهور).

وعن أحمد: (أنَّ الاستنشاق وحده واجب في الطهارتين) انتهى.

وممن قال بوجوبهما أيضًا: حمَّاد بن سليمان، والزُّهري، وعطاء، وبعض أصحاب داود، وأبو ثور، وأبو عبيد، وغيرهم، ففي الحديث الصحيح قوله عليه السلام: «تحت كل شعرة جنابة؛ فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة...»؛ إلى آخر الدلائل الواضحة التي قدمناها الدالة على وجوبهما في الغسل.

وقال مالك، والشافعي، والأوزاعي، والطبري، والليث، والحكم، وقتادة: إنَّهما سنة في الغسل؛ كالوضوء.

قال في «المنهاج» و «شرحه» : ولا يجب مضمضة واستنشاق لأمرين؛ أحدهما: القياس على الوضوء، وعلى غسل الميت، والثاني: ما رواه أحمد أنَّه ذكر عند النبيِّ عليه السلام الغسل من الجنابة، فقال: (أمَّا أنا؛ فآخذ ملء كفي ثلاثًا، فأصبه على رأسي، ثم أفيض بعده على سائر جسدي) انتهى.

وما رواه مسلم: («عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار،

<<  <   >  >>