بعد الأمر بالوضوء مما مست النار، وهو الظاهر، وأن وضوءه لصلاة الظهر يحتمل أنه كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة، ويحتمل أنه من أكل الشاة؛ لكونها مسمومة، فوجد حرارة السم في جسده الشريف، فتوضأ لأجل إطفاء الحرارة لا بسبب الأكل من الشاة، قال الشيخ النووي: والخلاف فيه معروف بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مست النار إلا ما تقدم استثناؤه من لحوم الإبل، وجمع الخطابي بوجه آخر؛ وهو أن الأمر بالوضوء منه الوارد في الأحاديث محمول على الاستحباب لا على الوجوب، وقال المهلب: كانوا في الجاهلية قد ألفوا قلة التنظيف، فأُمِروا بالوضوء مما مست النار، فلما تقررت النظافة في الإسلام وشاعت؛ نسخ لزوم الوضوء مما مست النار؛ تيسيرًا على المسلمين، وحديث مسلم عن جابر يفيد التخيير بين الوضوء وعدمه، فدلَّ على أنه غير واجب، وعلى كلٍّ أحاديث الإباحة أقوى من أحاديث المنع؛ فهي لا تقاوم أحاديث الإباحة.
قال في «عمدة القاري» : (وفي الحديث دلالة على أنَّ أكل ما مسته النار لا يوجب الوضوء، وقد ذكرناه.
وفيه: جواز قطع اللحم بالسكين، فإن قلت: ورد النهي عن ذلك في «سنن أبي داود»؛ قلت: هو حديث ضعيف، فإذا ثبت؛ خُصَّ بعدم الحاجة الداعية إلى ذلك؛ لما فيه من التشبيه بالأعاجم وأهل الرفاهية.
وفيه: قبول الشهادة على النفي إذا كان محصورًا مثل هذا؛ أعني قوله: «ولم يتوضأ») انتهى.
قلت: ولا بد للشهادة على النفي من جمع عظيم، ومقداره مفوض إلى رأي قاضي القضاة، وقيل: مقدر بثلاثين رجلًا، وقيل: بعشرين، وقيل: بعشرة، والأول المعتمد، وعليه الفتوى، والله تعالى الموفق للتقوى.
(٥١) [باب من مضمض من السويق ولم يتوضأ]
هذا (باب: من مضمض)؛ أي: تمضمض، أو المفعول محذوف، (من) أَكْلِ (السويق) بعد أكله (ولم يتوضأ) : فاعله عائد إلى (من)، يجوز فيه وجهان: إثبات الهمزة ساكنة علامة للجزم، وحذفها تقول: لم يتوضَ، كما تقول: لم يخش؛ بحذف الألف، والأول هو الأشهر، كما في «عمدة القاري».
قال ابن حجر: يجوز في (لم يتوضأ) روايتان، ورده في «عمدة القاري» : بأنه لا يقال في مثل هذا روايتان، بل يقال: وجهان، أو لغتان، أو طريقان، أو نحو ذلك؛ فافهم، والله أعلم
[حديث سويد بن النعمان: أنه خرج مع رسول الله عام خيبر]
٢٠٩ - وبه قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف)؛ أي: التِّنِّيسي (قال: أخبرنا مالك)؛ أي: ابن أنس الأصبحي، (عن يحيى بن سعِيد)؛ بكسر العين؛ أي: الأنصاري، (عن بُشَير) بضم الموحدة، وفتح المعجمة، والتصغير (بن يَسَار)؛ بفتح التحتية والمهملة: الخازن (مولى بني حارثة) : كان شيخًا فقيهًا، أدرك عامَّة أصحاب النبي الأعظم عليه السلام: (أنَّ سُوَيْد) بضم المهملة، وفتح الواو (١) وسكون التحتية (بن النُّعمان)؛ بضم النُّون: الأنصاري الأوسي المدني، من أصحاب بيعة الرضوان (أخبره أنَّه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ خيبر)؛ بالنصب على الظرفية؛ أي: سنة غزوة رسول الله عليه السلام لها، وكانت سنة سبع، و (خيبر) : بلدة معروفة، بينها وبين المدينة نحو أربع مراحل، وقال أبو عبيد: ثمانية برد، وسميت باسم رجل من العماليق نزلها، واسمه خيبر بن فانية بن مهلائيل، وكان عثمان رضي الله عنه مصَّرها، وهي غير منصرفة؛ للعلمية والتأنيث، فتحها رسول الله عليه السلام، واختلف في فتحها؛ قيل: فتحت عنوة، وقيل: صلحًا، وقيل: بعضها صلحًا وبعضها عنوة، وتمامه في «عمدة القاري»، (حتى إذا كانوا)؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام وأصحابه الكرام، (بالصَّهْباء)؛ بفتح الصَّاد المهملة، وسكون الهاء والموحدة الممدودة (وهي)؛ أي: الصَّهباء (أدنى خيبر)؛ أي: أسفلها وطرفها من جهة المدينة، وعند المؤلف في (الأطعمة) : (وهي على روحة من خيبر)، وهذه الزيادة مدرجة من قول يحيى بن سعيد، كما عند المؤلف في موضع آخر من (الأطعمة)، وقال البكري في «معجم البلدان» : (هي على بريد) انتهى (فصلى) : الفاء فيه لمحض العطف وليست للجزاء؛ لأنَّ قوله: (إذا كانوا) ليست جزائية، بل هي ظرفية؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام، (العصر)؛ أي: صلاة العصر، وفي رواية: (نزل فصلى العصر)، فظهر بروايتهما أن الفاء لعطف (فصلى) على (نزل) المقدر لا على (كانوا)، كما تقدم، أفاده في «عمدة القاري».
(ثم دَعا)؛ بفتح الدَّال؛ أي: النبي الأعظم عليه السلام (بالأزواد)؛ جمع زاد؛ بالزاي: وهو طعام يتخذه المسافر في سفره، (فلم يُؤت) بضم التحتية (إلا بالسويق) : المعلوم مما سبق، (فأمر به) عليه السلام بالسويق أن يثرى؛ (فثُرِّي)؛ بضم المثلثة وتشديد الرَّاء المكسورة ويجوز تخفيفها على صيغة المجهول؛ أي: بُلَّ بالماء لما لحقه من اليبس، يقال: ثرَّيته تثرية؛ إذا رششته بالماء، (فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي: من السويق، (وأكلنا)؛ أي: منه، زاد المؤلف في رواية سليمان الآتية: (وشربنا)، وعنده في (الجهاد) من رواية عبد الوهاب: (فلكَّينا وأكلنا وشربنا)؛ أي: من الماء أو من مائع السويق، (ثم قام) عليه السلام (إلى) صلاة (المغرب)؛ أي: أراد أن يصلي صلاة المغرب، فطلب ماء، (فمضمض) فاه به قبل أن يشرع في الصلاة، (ومضمضنا) كذلك، (ثم صلى)؛ أي: صلاة المغرب، وصلينا خلفه (ولم يتوضأ)؛ أي: بسبب أكل السويق، ولم يأمرنا بالوضوء.
ففيه المطابقة لجزئي الترجمة، وفائدة المضمضة منه وإن كان لا دسم له: أنه لا بد أن تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشتغل بتتبعه باللسان عن الصلاة.
وفي الحديث: حمل الأزواد في الأسفار، وأن ذلك لا ينافي التوكل، قال المهلب: وفي الحديث: أن الإمام يأخذ المحتكرين بإخراج الطعام عند قلته؛ ليبيعوه لأهل الحاجة، وأن الإمام ينظر لأهل العسكر ليجمع الزاد؛ ليصيب منه من لا زاد معه.
وقال الخطابي: فيه دليل على أن الوضوء مما مست النار منسوخ؛ لأنَّه متقدم، وخيبر سنة سبع، واعترضه ابن حجر: بأنه لا دلالة فيه؛ لأنَّ أبا هريرة حضر بعد فتح خيبر وروى الأمر بالوضوء، كما في «مسلم»، وأنه كان يفتي به بعد النبي عليه السلام، ورده في «عمدة القاري» : بأنه لا يستبعد ذلك؛ لأنَّ أبا هريرة ربما أنه يرويه عن صحابي كان أسلم قبله، فيسنده إلى النبي عليه السلام؛ لأنَّ الصحابة كلهم عدول، واعترض: بأنه لا يستقيم في الذي يقول فيه أبو هريرة: سمعته من النبي عليه السلام.
قلت: وفيه نظر؛ لأنَّه ربما أنه يكون قد سمعه قَبْلُ منه عليه السلام، وسمع صحابيُّ غيره النسخ، ولم يبلغ أبا هريرة، وإن ثبت عند غيره، ويقول: إنِّي سمعته من النبي عليه السلام، والحال أنه منسوخ ولم يبلغه النسخ؛ فليتأمل.
وفي الحديث: جواز أداء صلاتين فأكثر بوضوء واحد، قال ابن حجر: (وفيه: استحباب المضمضة بعد الطعام)، واعترضه في «عمدة القاري» : بأن المؤلف لم يضع هذا الباب لذلك هنا، وإن كان يفهم منه ذلك، انتهىوتمامه في «عمدة القاري»، والله تعالى الهادي.
[حديث ميمونة: أن النبي أكل عندها كتفًا ثم صلى ولم يتوضأ]
٢١٠ - وبه قال: (حدثنا) : وفي رواية: (وحدثنا)؛ بالواو (أصبغ)؛ بالغين المعجمة: هو ابن الفرج (قال: أخبرنا ابن وهَب)؛ بفتح الهاء: هو عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (عَمرو)؛ بفتح العين المهملة؛ أي: ابن الحارث، كما في رواية، (عن بُكير)؛ بضم الموحدة مصغرًا: وهو ابن عبد الله بن الأشج، (عن كُريب)؛ بضم الكاف مصغرًا أيضًا: هو ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم، المدني، أبي رشدين مولى ابن عباس رضي الله عنهما، (عن) أم المؤمنين (ميمونة) رضي الله عنها زوج النبي الأعظم عليه السلام، ممنوعة من الصرف؛ للعلمية والتأنيث: (أنَّ النبي) الأعظم (صلى الله عليه وسلم أكل عندها)؛ أي: في البيت الذي خصها به (كَتِفًا)؛ بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية؛ أي: لحم كتف، (ثم) قام و (صلى) : والظاهر أنها صلاة نافلة؛ لأنَّ الفريضة لا يصليها وحده عليه السلام، (ولم يتوضأ)؛ لأنَّه غير ناقض للوضوء، وهذا مذهب الأستاذ المعظم الإمام الأعظم، وأصحابه، ومالك، والشافعي، وأحمد، وغيرهم، وقد انعقد الإجماع على ذلك، كما سبق.
وليس بين هذا الحديث وبين الترجمة مطابقة؛ لأنَّه لم يذكر فيه السويق، ولهذا قالوا: إن وضع الحديث هنا من قلم الناسخين، وإن نسخة الفربري التي بخطه تقديمه إلى الباب السابق، ولم يذكر المضمضة فيه المترجَم بها، فقيل: أشار بذلك إلى أنَّها غير واجبة؛ بدليل تركها في هذا الحديث مع أن المأكول دسم يحتاج إلى المضمضة منه، فتركها؛ لبيان الجواز، وبقية المباحث تقدمت في الباب قبله، وتمامه في «عمدة القاري»؛ فليحفظ.
(٥٢) [باب: هل يمضمض من اللبن]
هذا (باب) بالتنوين: (هل يُمَضمِض)؛ بضم المثناة التحتية، وفتح الميم الأولى، وكسر الثانية وفتحها على
(١) في الأصل: (الرَّاء)، ولعله تحريف عن المثبت.