للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

التيمم؛ هو أنه صدَّر أولًا بذكر مشروعية التيمم عند عدم الماء، ثم ذكر بعده حكم من لم يجد ماءً ولا ترابًا، هذا على تقدير كون هذا الباب في هذا الموضع، وفي بعض النُّسخ ذكر بعد قوله: (كتاب التيمم) : (باب التيمم في الحضر)، ثم ذكر بعده: (باب إذا لم يجد ماءً ولا ترابًا)، وعلى هذا؛ المناسبة بين البابين من حيث إنه ذكر أولًا حكم التيمم في السَّفر، ثم ذكرَ بعده حكمه في الحضر، ثم ذكر حكم عدم الماء والتراب معًا، وهو على هذا الترتيب كما ينبغي، ولم يتعرض لمثل هذه

[حديث عائشة: أنّها استعارت من أسماءَ قلادةً فهلكتْ]

٣٣٦ - وبالسَّند إلى المؤلف قال: (حدثنا زكريا بن يحيى) هكذا وقع في جميع الروايات من غير ذكر جده، ولا نسبه، ولا شيء هو مشتهرٌ به، والحال أنَّ المؤلف روى عن اثنين كل منهما يُقال له: زكريا بن يحيى؛ أحدهما: زكريا بن يحيى بن صالح اللؤلؤي البَلخي الحَافظ، المتوفى ببغداد سنة ثلاثين ومئتين، والآخر: زكريا بن يحيى بن عمر الطَّائي الكوفي أبو السَّكَين؛ بفتح السِّين المُهملة، وفتح الكاف، المتوفى ببغدادَ سنة إحدى وخمسين ومئتين؛ وكلاهما يرويان عن ابنِ نُمير، فزكريا هذا يحتملهما، وأيًّا كان منهما؛ فهو على شرطه؛ فلا يوجب الاختلاف بينهما قدحًا في الحديث وصحته، ومالَ الغسَّاني والكلاباذي إلى الأوَّل، فقال الغسَّاني: حديث البخاري عن زكريا البلخي في التيمم وفي غيره، وعن زكريا أبو السَّكَين في (العيدين)، وقال الكلاباذي: البلخي يروي عن ابن نُمير في (التيمم)، وقالَ ابن عدي: (هو زكريا بن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة)، وإلى هذا مال الدَّارقطني؛ لأنَّه كوفي، كذا قالهُ إمام الشَّارحين، (قال: حدثنا عبد الله بن نُمير) بضمِّ النون، الكوفي (قال: حدثنا هشام بن عُرْوة) بضمِّ العين المهملة، وسكون الراء، (عن أبيه) هو عُرْوة بن الزُّبير بن العوام، (عن عائشةَ) الصِّديقة بنت الصِّديق الأكبر رضي الله عنهما: (أنَّها استعارت من أسماءَ) هي أختُها، وهي المُلقبة بذات النِّطاقين (قِلادةً)؛ بكسر القاف، وكانت تُدعى السِّمط، تبلغُ السُّرة، كما صرَّح به الحافظ الطَّحاوي في هذا الحديث من طريق عُرْوةَ، عن عائشة، وكانت من جذعِ أظفار، قاله أبو عُبيد البكري، (فهلكت) أي: ضَاعتْ، وفي رواية الحميدي في «مُسْنده» عن سفيان: حدثنا هشام بن عُرْوة، عن أبيه في هذا الحديث فقال فيه: إنَّ القِلادة سقطت ليلة الأبواء؛ وهي بين مكة والمدينة؛ فليحفظْ.

لا يُقال: إنَّ عائشة قالت في الباب السَّابق: (انقطع عِقدٌ لي إنَّه لأسماء)، وإضافته إلى نفسها هناك باعتبار أنَّه كان تحت يدها وتصرفها بدليل هذه الرِّواية؛ لأنَّا نقول المذكور في الباب السَّابق قصة العقد، والمذكور في هذا الباب قصة القِلادة، فالعِقد غير القِلادة فهما قصتان، ويدل لذلك: أنَّ ضياع العقد قد تعدد مرَّاتٍ، فالعقد الذي في الباب السَّابق هو مِلكٌ لعائشةَ؛ لإخبارها بأنَّه لها، وهي لا تُخْبِر بخلاف الواقع، وهذه القصة وقعت ليلة الأبواء، وقصة الباب السَّابق وقعت في غزوة ذاتِ الرِّقاع، كما قدمناه مفصَّلًا؛ فافهم.

(فبعثَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم رجلًا) في طلبها، وهو أُسَيْد بن حُضَيْر؛ بضمِّ الهمزة مصغرًا، وبضمِّ الحاء المهملة، وفتح المعجمة، وسكون التحتية، (فوجدها) أي: القِلادة، ولا منافاة بين هذا وبين قولها في الباب السابق: (فأصبنا العِقد تحت البعير)؛ لأنَّ لفظ (أصبنا) عام يشمل عائشة والرَّجل، فإذا وجد الرَّجل بعد رجوعه؛ صدق قوله: (أصبنا)، ويحتمل أن النَّبيَّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم هو الذي وجده بعد ما بعثه إليه كما سبق؛ فافهم، (فأدركتهم الصَّلاة) وفي رواية الحافظ الطَّحاوي في نحو هذا الحديث: (قالت عائشة: فلمَّا نزلنا مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم لصلاة الصُّبح...)؛ الحديث، فعُلِمَ به أنَّها صلاة الفَجر؛ فليحفظْ، (وليس معهم ماء) يُحتَمل أنَّه ليس معهم ماء يكفي للشُّرب لهم، ولدوابهم، وللطَّعام، والوضوء، ويُحتَمل أنَّ الماء قد فرغ منهم بالكلية بسبب مكثهم وإقامتهم في هذا المكان؛ لأجل انتظار القلادة، وهو الظاهر؛ فتأمل، (فصلُّوا) أي: بغير وضوء، كما صرَّح به المُؤلف في (سورة النِّساء) في فضل عائشة، وكذلك مُسلم في «صحيحه» أي: وبغير تيمم، كما صرح به الطبراني في «الكبير»، وفيه: (فصلو [ا] بغير طهور...)؛ الحديث، وهو شاملٌ للماء والتُّراب، لكن روى الحافظ الطَّحاوي من حديث عُرْوة عن عائشة قالت: (أقبلنا مع النَّبيِّ الأعظم صلَّى الله عليه وسلَّم من غزوة كذا، حتى إذا كنَّا بالمعرض قريبًا من المدينة؛ نفست من الليل، وكانت عَليَّ قِلادة تدعى السمط، تبلغ السُّرة فجعلت أنفس، فخرجت من عنقي، فلمَّا نزلت مع النبيِّ الأعظم صلى الله [عليه] وسلم لصلاة الصبح؛ قلت: يا رسول الله؛ خرجت قلادتي، فقال للناس: «أمكم قد ضلتْ قِلادتها فابتغوها» فابتغاها النَّاس، ولم يكن معهم ماء فاشتغلوا في ابتغائها إلى أن حضرتهم الصَّلاة، ووجدوا القلادة، ولم يَقْدِروا على الماء، فمنهم من تيمم إلى الكفِّ، ومنهم من تيمم إلى المنكِب، ومنهم من تيمم على جِلده، فبلغ ذلك رسول الله، فأنزلت آية التَّيمم) انتهى، فهذا يدل على أنهم صلوا بالتَّيمم؛ لأنَّ فيه التصريح بأنهم تيمموا، وأجاب إمام الشَّارحين: بأنَّ هذا التيمم المختلف فيه عندهم كلا تيمم؛ لعدم وجود النَّص حينئذٍ، فصار كأنهم صلوا بغير طهور، ويؤيد ذلك ما رواه الطَّبراني في «الكبير» من حديث هشام بن عُرْوة عن أبيه، عن عائشة: أنها استعارت قِلادةً من أسماء، فسقطت من عنقها فابتغوها فوجدوها فحضرت الصَّلاة، فصلوا بغير طهور...)؛ الحديث، فقوله: (بغير طهور) يتناول الماء والتراب، فدل على أنَّ التيمم الذي تيمموه (١) على اختلاف صفته كان حكمه حكم العدم، ألا ترى أنَّه لو كان معتبرًا به ومعتمدًا عليه قبل نُزول الآية؛ لما سأل عمَّار رضي الله عنه الَّذي هو أحد من تيمم ذلك التَّيمم المُختلف فيهرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن صفة التيمم، فسؤاله هذا إنَّما كان بعد تيممه بذلك التيمم.

فإن قلتَ: هذا التَّيمم المختلف فيه هل عملوه باجتهاد ورأي من عندهم أم بالسنة؟

قلتُ: الظَّاهر أنه كان باجتهاد منهم، فرجع هذا إلى المسألة المختلف فيها، وهي أن الاجتهاد في عصره صلَّى الله عليه وسلَّم هل يجوز أم لا؟ فمنهم: من جَوَّزه مطلقًا، وهو المختار عند الأكثرين، ومنهم: من منعه مطلقًا، وقال بعضهم: يجوز للغائيبن عن الرَّسول دون الحاضرين، ومنهم: جوزه إذا لم يوجد مانع، انتهى كلام إمام الشارحين.

قلت: ومراده بقوله: (وقال بعضهم) : ابن حجر، ولا وجه لما قاله؛ لأنَّ هذا توفيق بين القولين، وكأنه لم يعلم بأن القول الأول هو المُختار، وأنه قول الأكثرين، وإذا اختلف في مسألة؛ فالعبرة لما اختاره


(١) في الأصل: (تتيمموه)، ولعله تحريف.

<<  <   >  >>